بردٌ ورائحة
في البرد تأسرك الروائحُ الدافئة، كأن تشتمُّ عند الغروب رائحة شواء (الكبّة) أو قلاء (السنبوسك)، لتجد نفسكَ هائماً على وجه روحك، في دروب ذاكرتك، بعد أن تفتح لك، العواطفُ النبيلة، جميعَ خوابي عطورها.
في مثل هذه الأيام من عام 1973 وفي مدينةٍ أحببتها كما تستحق من الحب، وعشقتُ أزقّتها الضيقة الملتوية، والمنطوية على حميميّةٍ تنسال من خلالها عذوبة الحنين والحنان، والمرصوفة بحجارةٍ بيضاء تآكلت خدودها، والتي تعلّم التاريخُ منها، كيف يمشي على أرصفة القلوب، ويبثُّ فيها من شبابيك المواجد، روائحَ أحلام الغابرين، في الليل وتحت دموع المطر، أنت تسمع في أزقّة (ادلب) صدى أنفاسك .. خفقات قلبك، ويسمع أبو محمود الحارس الليلي، صدى وقع خطواتك الحذرة، فينعش أذنيك بصفرتين من الأمان، وبعد أن يردّ التحية، وبلهفة أبٍ يخاف على ولده، يبادركَ مؤنّباً وبحنوٍّ لا يقاوم: أين كنت الى هذا الوقت ؟! متى تنام ومتى تفيق يا ابني ومتى تذهب الى المدرسة ؟! ليختلط الجلال الذي في شاربيه بحبات المطر وضوء المصابيح المتعبة، فتجتاحك قشعريرة طيبة، تزرع في حقول الوجدان، بذور المودة والاحترام.
كان يجاورني، في الدار العربية التي أسكنها، أناسٌ طيّبون وعفويون، في دار أحدهم، مسجّلة كاسيت كبيرة، قلّ من يمتلكها في تلك الأيام، وكأنه لم يكن بحوزتهم، سوى شريط (أبو حسن الحريتاني) حيث يفرض علي سماع مواله: { فردك استندر يضرب ضرب رشاش } على الأقل عشر مرات في اليوم الواحد .
وذات استراحةٍ لأبي حسن الحريتاني، كنت متكوّراً تحت اللحاف، أدفّئُ مشاعر الغربة، وأستجلب النعاس الذي لا يجيء، تسلّلت إليَّ ومن شقوق الباب، رائحة الكبة المشوية، وبينما أحاول، مستعيناً بأنفي وبشهيتي، معرفة مصدرها، سمعت جارتي وهي تنادي على ولدها، ليحمل لي صحناً منها، ولما لم يستجب ولدها، رفعت صوتها ملحةً ومؤنبة، لأسمعها تقول: ((تعال يا ابني قبل ما تبرد .. حرام عليك .. يا روحي هلق بكون قلب أمه دايب عليه)) جارتي هذه التي تساوي أمة كاملة، بطيبتها ونبلها وإنسانيتها، كانت تقول ما سمعتم، وهي لا تعلم بأنني يتيم الأم.
عبد الرحمن الإبراهيم