خندق ماريانا البحري.. أعمق منطقة في المحيط؟
على مدى قرن كامل، تتابعت الحملات الاستكشافية التي تحاول سبر أغوار خندق ماريانا (Mariana Trench) والوصول لأعمق نقطة في قيعانه واستكشاف أسراره المثيرة وكائناته الغريبة. ومؤخرا نشر موقع “لايف ساينس” (Live Science) مقالا مطولا حول هذا الخندق يحتوي على العديد من المعلومات المذهلة.
يقع خندق ماريانا، الذي يتخذ شكل الهلال ويحتوي على أعمق منطقة في المحيطات وبه أعمق بقعتين في كوكب الأرض، في غرب المحيط الهادي، شرق جزر ماريانا بالقرب من جزيرة غوام (أميركية).
ويبلغ طول خندق ماريانا 2542 كيلومترا، أي أكبر 5 أضعاف من الأخدود العظيم في ولاية أريزونا الأميركية، غير أن خندق ماريانا أضيق إذ لا يتجاوز أقصى عرض له 69 كيلومترا.
وتشتهر المنطقة المحيطة بالخندق بالعديد من البيئات الفريدة، ففيها منافذ يتدفق منها الكبريت وثاني أكسيد الكربون السائلان، وبراكين الطين النشطة والمخلوقات البحرية التي تكيفت مع الضغط البحري الذي يفوق الضغط عند مستوى سطح البحر بألف ضعف.
في الطرف الجنوبي من خندق ماريانا توجد منطقة تشالنغر ديب بها أعمق نقطة في المحيط (نوا)
وفي الطرف الجنوبي من خندق ماريانا توجد منطقة اسمها تشالنغر ديب (CHALLENGER DEEP) بها أعمق نقطة في المحيط، وقد كان من الصعب قياس عمقها من السطح ولكن في عام 2010 استخدمت الإدارة الوطنية -الأميركية- للمحيطات والغلاف الجوي “نوا” (NOAA) تكنولوجيا النبضات الصوتية عبر المحيط وحددت عمق “تشالنغر ديب” بمسافة قدرها 10 آلاف و994 مترا.
وفي عام 2021 وجد القياس باستخدام مجسات الضغط أن أعمق نقطة في تشالنغر ديب تبعد 10 آلاف و935 مترا عن السطح، وتراوحت التقديرات الأخرى بمسافات أقل من 305 أمتار.
أما ثاني أعمق بقعة في المحيط فهي أيضا في خندق ماريانا، ويطلق عليها “سيرينا ديب” (Sirena Deep)، وتبعد 200 كيلومتر عن تشالنغر ديب، ويبلغ عمقها 10 آلاف و809 أمتار، وبالمقارنة، فإن هذا العمق أكبر بمسافة 2147 مترا من ارتفاع قمة جبل إيفرست الذي يبلغ 8848 مترا فوق مستوى سطح البحر.
من يبسط سيطرته على خندق ماريانا؟
ولما كانت جزيرة غوام منطقة أميركية، وجزر ماريانا الشمالية الـ15 تخضع لسيطرة الكومنولث الأميركي، فإن خندق ماريانا يقع تحت نفوذ وسيطرة الولايات المتحدة الأميركية، وفي عام 2009، حدد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الحدود الوطنية البحرية لخندق ماريانا، الذي أصبح محمية بحرية مساحتها 506 آلاف كيلومتر مربع تتضمن قاع البحر والمياه المحيطة بالجزر النائية.
تشكل خندق ماريانا بسبب عمليةٍ جيولوجيةٍ تحدث في مناطق تسمى بمناطق الاندساس (subduction) التي تتكوّن نتيجة اصطدام صفيحتين هائلتين من قشرة المحيط مع بعضهما بعضا، إذ تدفع إحداهما الأخرى فتنزلق تحتها وتغوص في طبقة الوشاح (وهي الطبقة التي تقع تحت القشرة الأرضية). وبسبب تداخل هاتين الصفيحتين تشكل خندقٌ عميقٌ فوق المنعطف في القشرة المغروسة في الأسفل.
وفي حالة خندق ماريانا، فقد تشكل نتيجة لانزلاق قشرة المحيط الهادي وانثنائها تحت قشرة الفلبين. وبينما يبلغ عمر قشرة المحيط الهادي 180 مليون سنة وهي تغوص في الخندق، فإن قشرة الفلبين أقل عمرا وأصغر حجما من قشرة المحيط الهادي.
ورغم العمق الهائل للخندق فإنه ليس الأقرب لمركز الأرض، ولأن كوكبنا منبعج عند خط الاستواء، فإن المسافة بين القطبين ومركز الأرض أقل بحوالي 25 كيلومترا منها عند خط الاستواء، لذا فإن قاع المحيط القطبي أقرب إلى مركز الأرض من تشالنغر ديب.
يبلغ ضغط الماء الهائل على قاع الخندق ما يزيد على 8 أطنان لكل بوصة مربعة (703 كيلوغرامات للمتر مربع)، وهو ضغط أكبر من ألف ضعف الضغط الذي تشعر به عند مستوى سطح البحر، أو ما يعادل 50 طائرة جامبو فوق شخص.
هل نجح أحد في الغوص إلى أعماق خندق ماريانا؟
على مدى العقد الماضي، استكشفت العديد من الرحلات العلمية المأهولة وغير المأهولة خندق ماريانا وتنافست في تحطيم الرقم القياسي للوصول إلى أكبر عمق للقاع السحيق.
ففي عام 1875، اكتشف سفينة “إتش إم إس تشالنغر” (HMS Challenger) الخندق لأول مرة باستخدام معدات حديثة للسبر بالموجات الصوتية، أثناء رحلة طواف لها حول العالم.
وفي عام 1951، فحصت سفينة أخرى اسمها “إتش إم إس تشالنجر 2” الخندق مرة أخرى، وتكريما لهاتين السفينتين تم إطلاق اسم “تشالنغر ديب” على أعمق جزء من الخندق.
أما أول غواصة يقودها إنسان تصل إلى أعماق منطقة “تشالنغر ديب” هي غواصة “تريستي” (Trieste) التي قامت بهذه الرحلة في عام 1960 وكان يقودها ملازم البحرية الأميركية دون وولش، والعالم السويسري جاك بيكارد، ووصلت المركبة إلى عمق 10 آلاف و911 مترا.
وفي عام 2012، قاد جيمس كاميرون، المخرج السينمائي الشهير، منفردا غواصة “ديب سي تشالنغر” (Deepsea Challenger) للوصول إلى قاع منطقة تشالنغر ديب بعمق 10 آلاف 908 أمتار، وصور فيلما وثائقيا عن أعماق الخندق لصالح جمعية ناشونال جيوغرافيك.
وفي عام 2019، قاد المستكشف ورجل الأعمال فيكتور فيسكوفو مركبة أخرى اسمها “دي إس في ليميتينغ فاكتور” (DSV Limiting Factor)، ليحطم الرقم القياسي بالغوص لأعمق نقطة في تشالنغر ديب ووصل إلى عمق 10 آلاف و927 مترًا.
وبخلاف الرحلات المأهولة، كانت هناك رحلات غير مأهولة إلى الخندق قامت بها غواصات روبوتية لتوسيع حدود وآفاق المعرفة البشرية حول هذه الأعماق السحيقة للمحيط.
ففي عام 1995، جمعت الغواصة البحرية اليابانية “كايكو” (Kaiko) عينات وبيانات من الخندق، وفي عام 2009، وصلت الغواصة الأميركية المزدوجة المدار عن بعد “نيوريوس” (Nereus) إلى أعماق “تشالنغر ديب”، وظلت تسجل الفيديو لمدة 10 ساعات.
وفي عام 2021، جمعت البعثة الإسبانية “بعثة حلقة النار – الجزء الثاني” التي قامت بها منظمة “كالادان أوشينيك” صخورا من طبقة الوشاح الأرضية في أعماق خندق ماريانا تحتوي على حصائر ميكروبية.
كشفت البعثات العلمية الأخيرة حياة مزدهرة ومدهشة في الأعماق السحيقة في خندق ماريانا وغيرها من الظروف القاسية المشابهة، وقد وصفتها ناتاشا غاللو، باحثة الدكتوراه في معهد سكريبس لعلوم المحيطات (Scripps Institution of Oceanography)، التي درست مقطع الفيديو الذي سجلته بعثة المخرج السينمائي جيمس كاميرون في الخندق في عام 2012، بقولها “الغذاء في خندق ماريانا شديد الندرة لبعد المضيق العميق السحيق عن الأرض، وقليلا ما تشق النباتات الأرضية طريقها إلى عمق الخندق، وعلى كائنات البلانكتون (العوالق) الميتة الغارقة من السطح أن تجتاز آلاف الأقدام كي تصل إلى الأعماق في منطقة “تشالنغر ديب. لكن بعض الميكروبات تعتمد في غذائها على المواد الكيميائية، مثل الميثان والكبريت، أما المخلوقات الأخرى فتلتهم الكائنات البحرية الأقل منها في السلسلة الغذائية”.
أكثر الكائنات شيوعا في أعماق خندق ماريانا، على حد قول ناتاشا غاللو، هي الزينوفايفورا (xenophyophores)، ومزدوجات الأرجل (amphipods)، وخيار البحر الصغير (small sea cucumbers)، وقد رصدت أعداد الأخيرة بوفرة وأعداد كبيرة في الأعماق.
تشبه مخلوقات الزينوفايفورا الأميبا العملاقة، وهي تتناول الطعام عبر الإحاطة بطعامها ثم امتصاصه، أما مزدوجات الأرجل فهي مخلوقات لامعة تشبه الجمبري توجد بوفرة في الأعماق، لكن قدرتها على الحياة في هذا الضغط الرهيب أمر محير لأن قشور هذه المخلوقات ستذوب بسهولة تحت وطأة الضغط المرتفع في خندق ماريانا. ولكن في عام 2019، اكتشف الباحثون أن هناك عدة أنواع من المخلوقات التي تسكن خندق ماريانا تستخدم الألمنيوم المستخرج من ماء البحر في تعزيز قشورها.
وفي أثناء بعثة جيمس كاميرون العلمية في 2012، لاحظ العلماء ما يشبه الحصائر الميكروبية في منطقة “سيرينا ديب”، التي تقع إلى الشرق من منطقة “تشالنغر ديب”، وهذه الكتل الميكروبية تتغذى على الهيدروجين والميثان الذي تطلقه التفاعلات الكيميائية بين ماء البحر والصخور.
ومن أقوى الحيوانات المفترسة في المنطقة سمكة ذات شكل وديع ومخادع، ففي عام 2017 ذكر العلماء أنهم جمعوا عينات من سمكة غريبة أسموها “سمكة حلزون خندق ماريانا” (Mariana snailfish) وهي تعيش في أعماق تصل إلى 8 آلاف متر.
يبدو جسم السمكة الصغير ذو اللون الوردي الخالي من القشور بالكاد قادرا على النجاة في تلك البيئة القاسية، لكن هذه السمكة كانت مليئة بالمفاجآت التي سجلها الباحثون في ورقة بحثية نشروها في دورية “زوتاكسا” (Zootaxa). وقال الباحثون إن السمكة تهيمن على هذه المنظومة البيئية بقدرتها على الذهاب لأعماق لا تستطيع أي سمكة أخرى الذهاب إليها، واستغلال غياب المنافسين بالتهام الفقاريات الوفيرة التي تسكن قاع الخندق.
للأسف الشديد، باتت أعماق المحيطات مستودعا للقمامة والملوثات المهجورة ومنها خندق ماريانا. وفي دراسة نشرتها دورية “نيتشر إيكولوجي آند إيفولوشن” (Nature Ecology and Evolution) في عام 2017 أثبت فريق من الباحثين في جامعة نيوكاسل بالمملكة المتحدة أن المواد الكيميائية التي صنعها الإنسان وتم حظرها في السبعينيات ما زالت كامنة في أعمق المناطق في المحيط.
وفي دراسة أخرى نشرت في الدورية نفسها اكتشف الباحثون أثناء أخذ عينات من مزدوجات الأرجل (مثل الجمبري) في خندقي “ماريانا” و”كيرماديك” مستويات فائقة من الملوثات العضوية العنيدة في أنسجة المخلوقات الدهنية، منها ثنائي الفينيل متعدد الكلور وإثيرات ثنائي الفينيل متعدد البروم، وهي كيماويات شاع استخدامها في المواد العازلة كهربائيا ومثبطات اللهب. وقد تسربت هذه الملوثات العضوية العنيدة إلى البيئة في حوادث صناعية وتسربات مكبات النفايات خلال الفترة من عقد الثلاثينيات إلى السبعينيات من القرن الماضي، حين تم حظرها تمامًا.
ووجد الباحثون أن مزدوجات الأرجل التي فحصتها الدراسة على مستويات عالية من التلوث تشبه تلك التي في خليج سوروجا، وهو واحد من أكثر المناطق الصناعية تلوثًا في شمال غرب المحيط الهادي.
كثافة المواد البلاستيكية الدقيقة في أعماق البحار أصبحت أعلى بكثير مما كان يُعتقد في السابق (شترستوك)
ولأن الملوثات العضوية العنيدة لا تتحلل طبيعيا، فهي تستمر في البيئة لعدة عقود، وتصل إلى أعماق المحيطات من خلال المخلفات البلاستيكية الملوثة والحيوانات النافقة، وتنتقل الملوثات من كائن لآخر عبر سلسلة الغذاء في المحيطات، وفي النهاية تسفر عن مستويات تركيز مرتفعة للغاية للمواد الكيميائية أعلى بكثير من مستوى التلوث على السطح.
ولم يعد خندق ماريانا نفسه سالما من التلوث البلاستيكي الذي يغزو محيطات العالم، وتوصلت ورقة بحثية نشرت في دورية “جيوكيميكال بيرسبيكتيفز” (Geochemical Perspectives) إلى أن جزيئات البلاستيك الدقيقة منتشرة في التيارات السفلى من خندق ماريانا، الأمر الذي يؤكد أن هذه الملوثات البلاستيكية قد تخللت من المحيط لتتركز في الأعماق السحيقة.
وفي بيان صحفي حزين، قال آلان جاميسون، محاضر أول في البيئات البحرية في جامعة نيوكاسل (Newcastle University) والباحث الأول في الدراسة “كنا نتصور أن أعماق المحيطات في هذه المنطقة النائية والصافية آمنة من التأثير البشري، لكن دراساتنا تؤكد للأسف الشديد أن ذلك التصور أصبح أمرا بعيدا تماما عن الصحة. وعثورنا على مثل هذه المستويات الفائقة من هذه الملوثات في واحدة من أشد البيئات البحرية على الأرض عزلة وصعوبة في الوصول إليها يؤكد بجلاء التأثير المدمر طويل المدى الذي أحدثه البشر على الكوكب”.
المصدر: الجزيرة