الملاكمة إلى وصفة لمرضى الإضطرابات العقلية
“لا يخسر المرء إلا يستسلم”. يشتهر مايك تايسون بالكثير من الأمور بعضها غير مرتبط البتّة بالملاكمة ولكن مقولته هذه سُجّلت في التاريخ باعتبارها من أشهر المقولات حول هذه الرياضة. كما أنّها عبارة تجسّد روح الرياضة تماماً: فهي تمرين للعقل والجسم على حدٍ سواء.
إن أخذتم أي فيلم مرتبط بموضوع الملاكمة- مثل سلسلة أفلام روكي ومليون دولار بايبي وساوث باو- ستجدون أنّ جزءاً كبيراً من القصة يدور عادة حول عافية الملاكم النفسية بدءاً بطريقة تأقلمه مع التدريبات ومع مرحلة التحضير التي تسبق “النزال الكبير” ووصولاً إلى حياته الأسرية داخل المنزل. وصحيح أنّ الكثير يعتمد على ذهنية الملاكم- فطريقته في التفكير وصدّ الضجيج الخارجي هي ما يساعده في الأخير على إحراز اللقب وليس اللكمات التي يسددها.
لا عجب إذأ في أن نرى نموّاً بطيئاً إنما ثابتاً لحركة تركّز على الملاكمة- النوع الذي لا يشمل النزالات المباشرة بشكل عام- ضمن محاولات تجري في مدينة مانشستر لتقصّي طريقة توظيف هذه الرياضة في تحسين الصحة الذهنية للأفراد.
تقول لي غوين ريتشاردز، مؤسسة “خدمة التدريب على الملاكمة في مانشستر “الروح القتالية” Fighting Spirit “ذهنك يسيطر عليك تماماً حين تتردّى صحّتك العقلية ولذلك من المذهل أن تستعيد السيطرة على نفسك ويتسنّى لك أن تحقق ذلك من خلال الملاكمة. لمدة 45 دقيقة، تتاح لك هذه الفرصة النادرة باختبار التأمل الواعي عبر التمرين. إنه أمر رائع”.
ويقدّم نادي “الروح القتالية” تدريباً شخصياً على الملاكمة ومساحة آمنة لزبائن ريتشاردز كي يتحدثوا ويعبّروا عن مشاعرهم. والإبتعاد عن النزالات يعني أنّ الجلسات محصورة بالتمارين فقط- لذلك خلافاً لتايسون، لا يجري أيّ قتال فعلي. لكن هذا لا يعني أنّ التدريب لا يشكّل تحدياً صعباً امام الملاكمين، على الصعيدين الجسدي والنفسي.
يقول لي توم ستايت الذي يتردّد على الجلسات في “الروح القتالية” منذ نحو عام “أقصد المكان مرة في الأسبوع تقريباً وتُقسم الجلسة الواحدة إلى ثلاث جولات مدّتها دقيقتين أو ثلاث- أول جولة هدفها إحماء الجسم تليها بعض التمارين لرفع معدل نبضات القلب وتخصّص الجولة الثانية عادة لقتال الظلّ (أي التدرّب على الحركات دون قفازات والتركيز على تقنيات القتال) أما الجولة الأخيرة فمزيج من هذا التدريب وبعض ضرب القفازات وأكياس الملاكمة. كما نؤدي بعض تمارين القرفصاء (السكوات) والإندفاع إلى الأمام (lunges)”.
ويقول سترايت الذي عانى من القلق المفرط والكآبة طوال حياته تقريباً، أنه بعد مرور أقل من عام على تجربة الملاكمة غير القتالية أصبح قادراً على التعامل مع نوبات القلق المنتظمة بفضل المهارات التي تعلّمها.
ويخبرني أنّ “التركيز الذي تكتسبه بفضل الملاكمة يعني أنه عليك أن تكون حاضراً ذهنياً- في اللحظة التي تعيشها. علّمتني الصفوف أكثر من الملاكمة بكثير. أستطيع الآن أن أُخرج نفسي من النوبات التي أتعرّض لها عبر تركيز طاقتي بطريقة أكثر فعالية وذكاء”.
لكن إثبات أثر الملاكمة غير القتالية على الصحة الذهنية عبر التجارب ما يزال محدوداً للغاية. وتخبرني الدكتورة آيمي بلاكمور، المحاضرة في شؤون الصحة العقلية في جامعة مانشستر أنّ جزءاً كبيراً من عملها كباحثة وطبيبة نفسية حالياً يصبّ في التأسيس للتوصل إلى تثبيت هذا الموضوع.
وتقول لي “أعمل على تطوير هذا الحقل لأنني أؤمن بضرورة اعتباره موضوعاً جدياً. ومن أهم المشاريع التي أعمل عليها حالياً مشروع اسمه قاتل القلق (فايت أنكزايتي) وتموّله الجمعية الخيرية البريطانية أنكزايتي يو كي Anxiety UK ، وهدفه تقييم أثر الملاكمة غير القتالية على الأفراد الذين يعانون من القلق المرضيّ. وننوي أن نوظّف النتائج التي نتوقع الحصول عليها خلال المرحلة التجريبية في مشاريع أكبر على نطاق البلاد”.
بدأت بلاكمور دراستها بعد أن قصد مدرّبان مجموعة البحث المعنية بالصحة العقلية في الجامعة. وتشرح “كان العمل الذي يقومان به رائعاً ولا سيما مع الأشخاص المشرّدين دون مأوى. أحد المدرّبان اسمه آدم تايلور، إختبر شخصياً العيش دون مأوى لذلك يتركّز جزء كبير من عمله على تمكين الأفراد في تلك الدائرة كي يجتمعوا ويجرّبوا الملاكمة كطريقة لمساعدتهم على التعامل مع مختلف القضايا والنزاعات التي يعيشونها في الشارع”.
وساعد هذا المشروع الطلاب والمجتمع الأوسع فضلاً عن المشرّدين، وعُقدت في إطاره حصص تدريبية لكلّ المعنيين بمؤسسة “جيش الخلاص” (سالفيشن آرمي Salavation Army) وبمضافة محلية مخصصة لمن تتراوح أعمارهم بين 16 و25 عاماً.
لا يخفى على أحد أنّ الملاكمة تمثّل جزءاً كبيراً من ثقافة مدينة مانشستر: فتايسون فيوري وسكوت كويغ وريكي هاتون بعض الأسماء الكبيرة في عالم الملاكمة. وفي الواقع، كانت مدرسة الملاكمة التابعة لهاتون- واسمها أكاديمية هاتون- المكان الذي تأهّلت فيه ريتشاردز كي تصبح مدرّبة ملاكمة والمكان الذي ألهمها تأسيس “الروح القتالية”.
وتضيف بلاكمور “الإهتمام بهذا الحقل كبير حالياً، ويصبّ في دراسة درجة فعالية الملاكمة بالنسبة لمن يعانون من القلق المرضي والكآبة بشكل خاص. ما أحاول أن أفعله الآن وما آمل أن أنجح بإنجازه، هو الحصول على تمويل بحثي كي أستطيع أن أدرس هذه البرامج، أن أدرس مجتمع وبرامج الملاكمة غير القتالية عبر البلاد- وأن أنظر في تأثيرها وقدراتها”.
“وسوف نعمل في وقت لاحق على وضع إرشادات لكافة مقدمي خدمات الملاكمة الذين يخططون لدخول مجال الصحة العقلية- ووضع برنامج متكامل من التدريبات وهنا يأتي الدور الحقيقي لمشروع “قاتل القلق”: فهو مقدّمة لهذا العمل. والهدف الأساسي بالطبع هو تقديم هذه الإثباتات العلمية إلى هيئة الخدمات الصحية الوطنية كي تبدأ بدورها باعتبار الملاكمة وصفة اجتماعية للمرضى الذين يطلبون خدماتها في مجال الصحة العقلية”.
ما تريده ريتشاردز هو أن يصبح نادي الروح القتالية “الدواء” الذي “يصفه” أطباء الصحة العامة وغيرهم لمرضى يعانون من مشاكل في الصحة العقلية. “نقرأ قصص رعب حقيقية حول الأدوية المضادة للإكتئاب والعقاقير الأفيونية وغيرها من الأدوية في الأخبار (تقول منظمة الصحة العامة البريطانية، بابليك هليث إنغلند، إنّ نحو 12 مليون شخص- أي 1 من كل 4 راشدين- يستخدمون عقاقير مثل الأدوية المضادة للإكتئاب بشكل مزمن في المملكة المتحدة ويجدون صعوبة في التخلي عنها) وهذا لا يعني أنّه على الناس الإمتناع عن استخدامها لكن يجب أن تتوفر لهم خيارات أخرى”.
“وأستطيع أن أقول من خلال تجربتي الشخصية وبكل أمانة أنّ الملاكمة خيار يجب النظر فيه. وأنا مؤمنة بقدرتها على مساعدة من يعانون من المشاكل العقلية. أنا مؤمنة بذلك إلى أبعد الحدود”.
أبدت بضعة عيادات للصحة العامة في مانشستر بالفعل اهتمامها بالموضوع حسب ما تخبرني ريتشاردز، كما أظهرت شخصيات بارزة في هيئة الخدمات الصحية أيضاً اهتمامها بمناقشة مستقبل الروح القتالية باعتباره وصفة اجتماعية.
يقول ستايت إنه ما زال يتناول الأدوية لعلاج القلق والكآبة ولم يتوقّف عن تناولها لأنه يمارس الملاكمة الآن. ويضيف “لكن ما تعلّمته من هذه الصفوف هو وجود طرق أخرى لمعالجة المشاكل العقلية والصراعات التي تعاني منها ذهنياً. من المهم أن نتذكر أنّ العقاقير ليست الحل الوحيد وأعتقد أنّ هذا الخيار يغيب عن الأذهان أحياناً”.
ومن الإنتقادات البديهية التي توجّه إلى الملاكمة ولا سيما حين يُنظر إليها على أنها طريقة متطوّرة في توجيه المشاعر والمساعدة على تحسين الصحة الذهنية، ارتباط هذه الرياضة بالعنف.
ويقول بيت ديفيس وهو زبون آخر لدى ريتشاردز إنه على الرغم من التغيير الإيجابي الكامل الذي طرأ على حياته منذ أن بدأ بالملاكمة، فهو يعي جيداً أنها توفر له طريقة للتنفيس الفوري، والجسدي جداً، عن أي مشاعر متراكمة داخله. ويشرح “كنت أعاني منذ فترة طويلة وأسمح لضغوط العمل بالتأثير على حياتي الخاصة. وما أحببته بدايةً في الملاكمة بصراحة هو أنها أشعرتني بالحماسة الفورية والشديدة ووفرّت لي طريقة سريعة من أجل تغيير مزاجي. بينما كنت في السابق أراكم كل هذه السلبية في عقلي وجسدي، أصبح لدي الآن هذا المخرج من أجل التنفيس الفوري عنها”.
لكن في الحقيقة، يقول الدكتور آندرو إيليس، مستشار في الطب النفسي لدى هيئة العناية بالصحة العقلية “ذا برايوري” إن قلّة من الإثباتات تدعم المخاوف بأنّ الترويج للملاكمة غير القتالية يمكن أن يعزّز العدوانية.
ويتابع “تروّج دروس إدارة الغضب لاستراتيجيات التكيّف مثل تقنيات التركيز على مصدر لهو أو أخذ فترة استراحة أو الإسترخاء. والتمرين الجسدي طريقة أخرى من أجل إدارة مشاعر الغضب، لكن الملاكمة غير القتالية (أي الملاكمة التي لا تصل حدّ ضرب منافسك جسدياً) لا توفّرمصدر لهو واستراحة واسترخاء فقط- بل طريقة لتحويل الطاقة السلبية إلى قوة إيجابية، وهي تحقق هدفاً لأنها مخرج مهمّ للغضب يحول دون تراكم الإحباط وخروجه عن السيطرة”.
ويعتبر إيليس أنّ القدرة على تحويل القلق والإحباط التي تعلّمها الملاكمة غير القتالية، هي مهارة مهمة. “ما أراه لدى الكثيرين هو أنّ العجز عن التعامل مع هذه المشاعر يؤدي إلى مشاكل سلوكية مثل إلحاق الأذى المتعمد بالنفس وإساءة تناول المواد المخدرة أو الكحولية وظهور عوارض مثل اضطرابات النوم وقلة الثقة بالنفس. لكن من الناحية الأخرى، تتيح الملاكمة غير القتالية سبيلاً للفرد كي يركّز طاقته العصبية فيرضي نزعته العدوانية ويمارس التأمل الواعي”.
وماذا عن سعي ريتشاردز إلى دفع هيئة الخدمات الصحية لاعتبار الملاكمة غير القتالية وصفة اجتماعية؟ يجيب أيليس”برأيي، ستشكّل هذه الخطوة تطوّراً خلّاقاً ومفيداً بشكل خاص لمن يعانون من صعوبات في التعبير عن قلقهم وإحباطهم بطرق أخرى”.
ومن الواضح أنّ احتمالات الإخفاق في الّلجوء إلى الملاكمة غير القتالية لمعالجة مشاكل الصحة العقلية أقل بكثير من الفوائد التي تقدّمها الرياضة. وتقول ريتشاردز “لذلك أعتقد أنّ للملاكمة هذا التأثير على الناس. لأنه من غير الممكن أن تفكّر بأيّ شيء آخر في هذه اللحظة وهذا ما يعطيك إحساساً بالسلام أنت في أمسّ الحاجة له أحياناً “.
عندما أجريت مقابلة هاتفية مع ديفيس من أجل كتابة هذا المقال، كان خارجاً للتوّ من جلسة مع ريتشاردز ومن الواضج أنه يستمتع بإفرازات هرمون الإندورفين الذي استحقّه جرّاء جهده. ووسط حديثنا، حين ذكر “التنفيس الفوري” الذي توفّره له الملاكمة وامكانية ارتباطه بالغضب أوضح تماماً أن هذه النزعة الفورية تحوّلت منذ ذلك الحين إلى تغيّر في طريقته في الحياة والشعور والتصرف.
ويقول “الشعور الذي كان في البداية حلاً سريعاً وفورياً- والحماسة التي أحسست بها في تلك اللحظة ومن خلال التركيز على حركة يديّ واللكمات التي أسددها- تحوّلت فعلياً إلى حسّ دائم بالثقة بالنفس. وبالنسبة لي شخصياً، كنت قد فقدت هذا الشعور لمدّة طويلة جداً- الشعور بقيمتي الذاتية. لكنني لم أفقده منذ ذلك الحين”.
إن كنتم تعانون من القلق المرضي أو الكآبة، تقدّم منظمتا أنكزايتي يو كي Anxiety UK وساماريتانز Samaritan الدعم عبر الهاتف وعبر الخدمات. للإطلاع على خدمات نادي الروح القتالية، إضغط هنا
المصدر: The Independent