“غسان الأخرس” لوحة مأساوية رسمتها طائرات العدوان الروسي
متاح باللغة الإنكليزية Fresh Syria English
لم يعبه بفقره وضيق عيشه، ولم يكن يرى من الدُّنيا إلَّا حلاوتها، وجعل من التَّفصيلات الكبيرة الَّتي تحدث على السَّاحة آخر همّه، واقتصرت حياته البسيطة على العمل لتأمين ما يلزم لعيش حياةٍ كريمةٍ أرادها لأولاده.
“غسان محمد الأخرس” رجلٌ بسيط بكل ما تحمل الكلمة من معنى من مدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي، لم يكن يعلم ما تخبِّئه له ليلة الأحد الموافقة للرابع من شهر شباط الجاري، ذلك التَّاريخ الَّذي سيُحفر في ذاكرته وغير قابل للنسيان، وبصمته طبعت على قلبه وعقله وفكره.
خرج من منزله مساء تلك الليلة وألقى على عائلته نظرة المودِّع دون أن يعلم أنَّها النَّظرة الأخيرة، توجَّه إلى غرفة جعل منها ملجأً لطيوره الَّتي اعتاد العناية بها بغية إطعامها خوفاً عليها من الموت، ولم يخطر بباله أنه سيكون سبب في حياة طيوره وسيكون في نفس الزَّمان من يكون سبب بموت عائلته.
ما هي إلَّا دقائق معدودة إلا واهتزَّت الأرض تحت قدميه، وصوت انفجار كبير قد عمَّ الأجواء، وأصوات تعلو من حوله وتكهُّنات بمكان الانفجار، وتخلَّل تلك التكهُّنات كلمات سمعها وقعت على رأسه كالصَّاعقة، تقول بأنَّ الانفجار وسط المدينة وقريب من بيته الَّذي ترك فيه قِطعاً من جسده وبقايا من روحه الَّتي تمزَّقت قبل التَّأكُّد من الخبر.
وصل غسان وكانت الفاجعة، نارٌ ودخانٌ وأشلاء وأطلال بيوت مهدَّمة، انقسم جسده عن روحه الممزقة أصلاً وقلبه كاد أن يخرج من بين أضلعه الهشَّة وعقله تشتَّت بين زوجته وأولاده الأربع (تاج ومحمد وآمنة وجمعة)، وأخذ يبحث بين الرُّكام ويديه الخشنة تسيل من الدِّماء علَّه يجد ما يطفئ نار قلبه، وما يرمِّم روحه الممزَّقة.
بدأت فرق الدِّفاع المدني بانتشال جثامين الشُّهداء وإسعاف من كتب الله لهم النَّجاة، يتنقَّل من مكان إلى آخر ولم يكن يستوعب ما حدث، النَّاس يصرخون من حوله “هنا يوجد شهيد وهنا يوجد مصاب بحاجة للإسعاف” ليبدأ الباحثون بانتشال جثامين زوجته وأولاده (آمنة ومحمد وتاج) ويجد الباحثون ولده الصَّغير “جمعة” ووالده “محمَّد” مصابين بجراح، ليتمَّ نقلهم على الحال إلى مشافي المنطقة، والَّتي بدورها لم تسلم من إفراغ حقد روسي على أجساد بريئة غضَّة، لتعكس مدى الإجرام الَّذي وصل بهم إلى هذا الحال.
تمزَّقت روح غسَّان وانفطر قلبه وتشتَّت عقله وضاقت به الدُّنيا بما رحبت وغاب عنه الإدراك، ولم يجد لنفسه مكاناً فيها بعد أن خسر من عاش لأجلهم، ووجد فيهم الحياة الَّتي أحبَّها، وقلبه الَّذي امتلأ وفاض حزناً لن تكفه بحار الدُّنيا لإطفائها.
دفن غسان زوجته وأولاده كما فعل ذوو شهداء تلك المجزرة، قسَّم روحه بين من دُفن ولم يجد لنفسه مكاناً يعود إليه، ودُفنت ذكرياته بين ركام أطلالٍ بيته، وبقي إيمانه متجسِّداً يدفعه للوقوف على قدميه، مفوِّضاً أمره لله وحده.
حال غسان الأخرس كحال معظم السُّوريين في المناطق المحرَّرة، في ظلِّ تقاعس عربي ودولي لحماية المدنيين، فعندما تُزوِّد دول عربيَّة العدوان الروسي بالموارد المادِّيَّة والَّتي يحوِّلها بدوره زيتاً وناراً على المدنيين، وعندما يتجاهل خطيب عرفات الدِّماء المتدفِّقة في سوريا أمام ثلاثة ملايين حاجِّ وحًرمة دم المسلم المذبوح ويكتفي بخطابات الدّجل الرنانة وغيرها وغيرها من الصمت والتَّجاهل الغير مبرَّر تجاه ما يقوم به نظام الأسد وحليفه العدوان الروسي.
قتل ودمار وتشريد وأرض محروقة سياسة ينتهجها نظام الأسد والعدوان الرُّوسي للنيل من شعب أعزل وجد في الحرِّيَّة طعم الانتصار، محاولاً بذلك خلق الهزيمة النَّفسية المرجوَّة والتي بوجودها قد يُعلن النَّصر المبكِّر، إلا أنَّ هذا الشَّعب قد اعتاد التَّضحية، وباتت من أساسيَّات عقيدته الَّتي يرفض العودة عنها وينكر فاعلها.
محمد السطيف (إدلب – كفرنبل)