المقاتل المجهول
يفترش الأرض ويلتحف السماء، لا يخاف من المجهول مفوِّض أمره لخالقه لا يأبه بما قيل أو يقال، له هدف نصب عينيه يكاد لا يرى غيره، موجِّهاً بندقيَّته نحو عدو أيقن أنه مغتصب للأرض ومنتهك للعرض، لا تأخذه الشعارات الرنَّانة ولا تغرُّه الرايات الملوَّنة، ولم يجعل منها قيود تُكبِّل إرادته، ولا جنازير تبطيء من حركته.
هو المقاتل المفرد على جبهات القتال وقد غاب عن وصفه راية فصيله وشعارات قائده، فهو المجرَّدُ من الاتِّهامات بين انسحب وباع وتلقّى مقابلَ، لا يكترث بما يدور في دهاليز المفاوضات، ولا يأبه لما يدور في المغارات، بيته الخندق وغطاؤه التُّراب، ولا يُطرب إلَّا بسماع دوي الانفجارات وأزيز الرَّصاص، فهو المألوف لديه على ما يزيد 5 سنوات.
لا تخلو سماء خط الجبهات من طائرات العدوان الروسي الحربية ولا طائرات الأسد إن كانت حربية أو مروحيَّة، صواريخ الراجمات لا تنقطع والمدفعيَّة الثقيلة قد مشَّطت الأرض دون ترك أي أثر، باستثناء حفر وجور جعل منها المقاتل ملاذه الآمن بعد ذلك.
يأتي أمر الاقتحام ليكون في الصفِّ الأوَّل يتدافع مع رفاقه ليجد مكان له في المقدِّمة، يتسابقون للوصول إلى الهدف المرتجى، يضع الموت نصب عينيه دون أن يضعف من إرادته أو يضغط على قلبه ويرتجف، فهو المنتصر إن حقَّق الهدف، والشهيد إن نَّالت منه رصاصة عدوِّه.
فرحة النَّصر لا توصف لديه وبسمة الرفاق لا تغادر مخيِّلته، ودموع الفرح قد فاضت بعينيه، ويبدأ يفكِّر في الفرحة الكبيرة الَّتي سيلقاها عند رؤية أهله وذويه، يكبِّرون ويهللون ويضمدون الجراح لعلَّها تُشفى قبل العمل القادم، كي يعود إلى ما اعتاد عليه وجعل حياته مرهونة فيه.
يعود إلى البيت رافع الرأس مبتهجاً بما حقَّق مع رفاقه، شامخاً راسخاً كجبل يكاد لا ينحني، أمَّه الخائفة قد عادت لها الروح بعد رؤيته، والده حاني الظهر قد عاد له عزمه وعيناه الدَّامعتان قد أضعفت من رؤيته لفلذة كبده، وشقيقه الصغير ارتمى في حضنه رمية المشتاق.
تجمَّع الأقرباء في بيت الوالد مباركين وداعين بسلامة ولده، جمعتهم سهرة لطيفة يتخللها الضحكات والمناقشات الَّتي لا تغني ذلك المقاتل من شيء، بسمته لا تفارق وجنتيه وعيونه المنهكة قد أطبقت من التَّعب، تاركاً وصف ما حدث لوالده الَّذي استفسر منه حتَّى أدقَّ التَّفاصيل.
يتكرَّر الحال بين الحين والآخر دون وجود فوارق زمنيَّة كبيرة لضغط الوضع،
منهم من يعود على قدميه ومنهم من يعود محمولاً على الأكتاف، وفي بعض الأحيان لا يعود أبداً لصعوبة خروج جثمانه، لينشر الطُّهر في تراب تلك الأرض، ويهزم عدوَّه بتشبُّثه بتلك الأرض، وتبقى بسمته الأخيرة راية تُرفع من بعده وطريقاً يهدي الضَّال، وتبقى الاتِّهامات التي تروى بين الحين والآخر حملاً تثقل كاهل قائلها وكلاماً يُنفث في الهواء كأنه لا أحد قال ولا كان.
محمد السطيف (إدلب، كفرنبل)