منفسة هواء وإيثارُ شقيقةٍ تكتبان الحياة لطفلة صغيرة
أنفاس تضيق وقلب يخفق وذراعان تضمان جسداً ضعيفاً قد أنهكه التَّعب، شهيق وزفير دون جدوى، القلب الصغير تزداد دقاته والحنجرة قد اتَّسعت لعلها تجد بعضا من الهواء يحيي الرُّوح ويسكن القلب.
طفلتان صغيرتان من الغوطة الشرقية ارتمت إحداهما في أحضان الأخرى، أختان يتيمتان لم يجدا أملاً بالحياة إلَّا بين أذرع بعضهما، إحداهما جسَّدت الأمومة والتي من المفترض أن تكون بين ألعابها وتحمل دميتها بين ذراعيها، لتُقلب الأدوار وتكون الأم الحنونة التي تحمل ابنتها الصغيرة وتُجسِّد عظمة الإثار والتي خُصَّت بها الأم وعَظُمت بها.
غازٌ سامٌّ قد تسرَّب إلى صدورهن الصغيرة، قُطعت الأنفاس وحجرجت الصُّدور، هم كغيرهم من المدنيين في الغوطة الشرقية إلَّا أنَّ الحالة قد تميَّزت عن غيرها، فهما طفلتان يتيمتان لم تجدا احداً يلجأان إليه، فالكل يتمسَّك بالحياة ويحاول أن يسعف ذويه، فشُلَّت الأطراف وانحصرت الرؤى والسَّمع قد تخلَّله التَّشويش والعيون قد اغبشَّت والعقول لم تدرك ما الذي حصل.
نقل المسعفون المصابين إلى أحد المشافي الميدانية في الغوطة الشرقية لعلَّهم يدركون بعضاً من الحياة ولعلَّ أجلهم قد أُجِّل بعضاً من الوقت.
هناك في أحد أجزاء المشفى وتحت سقف قد تصدَّع من القصف في وقت سابق، جلست طفلة صغيرة لم تتجاوز العشر سنوات وفي حضنها أختها الرَّضيعة، وقد ضاق الصَّدر وتقطَّعت الأنفاس.
لم يكن عدد منافس الأوكسجين كاف لاحتواء جميع المصابين بسبب كثرتهم وحرج حالة الجميع، فنظام الأسد قد وسَّع من رقعة الاستهداف وركَّزها على تجمُّعات المدنيين، لتكون الأختين شريكتا الحياة والموت، فتتناوبان على “المنفسة” الصغيرة أملاً بنجاتهما سوياً وخوفاً من فقدان إحداهما للأخرى.
لحظاتٌ عصيبة عاشتها الشقيقة الكبرى عند نزعها للمنفسة من فم الصغيرة فالقلب يُقبض مع كل شهيق وزفير والصدر يضيق والجسد يتشجنَّج.
قرارٌ ليس كغيره وطفلةٌ ليس لها مثيل وإيثارٌ يكاد يندر حتَّى تفرَّدت بهذا العمل ويكون المصير المحتوم، فتنقل المنفسة وتضعها على ثغر أختها الصغيرة وبهذا قد رسمت نهايتها بيديها الصغيرتين.
لحظاتٌ صعبة تمر بها، قلبها تزداد دقاته وصدرها يضيق وحنجرتها تتوسَّع والجسد الأهزل بدأ يرتجف والصغيرة النَّائمة لا تشعر بما يحدث.
الوقت يمضي وشريط الحياة القصير الذي اقتصر على رؤى الموت والأشلاء والدمار قد مرَّ بسرعة، نظرات رفعت للسماء وعيون قد توسعت حداقتها وقلب قد خفت صوت دقاته والجسد الرَّاجف قد سكن، لحظات أخيرة لم يتخلَّلها دعاءٌ على المجرم لأنَّ العقل الصغير لم يعرف الذنب الذي ارتكب وليس له ذنب فيما حصل إلا حقد قاتله وجرمه على البشر والحجر، قاتلٌ لم يستطع بفعلته تلويث روح طفلة بريئة اقتصرت امنيتها الأخيرة أن تُكتب الحياة لأختها الصغيرة.
محمد السطيف (كفرنبل، ادلب)