كانت آخر مرةٍ أراه فيها جسداً واحداً..
منذ ثمانية أعوام ومنذ تلك الشرارة الأولى لم أدرك جيداً معنى الفقدان ولم أشعر به، كنت أظن أنه شعور كاذب يكذب شاعره عندما يحس به، فلا قيمة لشيء في هذه الحياة الفارغة في نظري، لا شيء يستحق أن أبكي عليه عندما أفقده، إلى أن جاء ذلك اليوم الربيعي الدافئ.
في ذلك اليوم المشمس كنت عائدا من عملي وكل ما يملئ عقلي ويشغل فكري، أن أصل للمنزل لأسكت أصوات بطني الهائج، لأملئ معدتي وأدخن سيجارتي وأدخل في فترة قيلولة الظهيرة.
انتهيت وجلست أدخن وأشرب الشاي وتسرقني مخيلتي فأفكر في الموت وأصنافه المتعددة، إذ أني كنت متابعاً مراً لبرنامج يدعى “أنين خلف القضبان”، وهو برنامج تعده الإذاعة المحلية التي أعمل بها، وتتناول مواضيعه عن أولئك الذين تم اعتقالهم وباتوا منسيين في عالم مظلم طغت عليه رائحة الدم المخثر وأنين أولئك الأبطال المحطمة أضلاعهم، في عالم لا يتجاوز حجمه المترين مربع لكل أربعة أشخاص أو ربما عشرة، ومن شدة تأثري به لم يدع هذا البرنامج وقتاً سانحاً إلا ويحتل حيزه في أرجاء رأسي الكبير، كنت أفكر في المعتقلين والناشطين الذين يعيشون من قلة الموت، فلا زبانية السجون يسمحون لهم بالموت بعد طرق التعذيب الممنهج، ولا أبواق الكبرياء وطبول الكرامة تتيح لهم مراودة أنفسهم بالانتحار.
أفكار تجر أفكار والحزن والغضب يتغلل في عروقي، لكن ذلك الشعور كان يذهب كما لو أنه صفية من سيجارتي أنفضه عنها كلما أسحب من دخانها فيملئ جوفي وفؤادي به، كنت أعرف أني مهما حزنت أو غضبت لا يمكنني بأي شكل من الأشكال أن أفيد أحد من أولئك المعتقلين المعذبين، وفي منتصف انقساماتي وتناقضات المتتابعة المكدسة، سمعت صوت أخي أحمد يقول لي بنبرة حزن أسمعها لأول مرة من فمه “عبدو استشهد!”.
كانت علاقتي مع أخي أحمد تعتمد بشكل كبير على المزاح فأحمد “صاحب بشرة شاحبة حمراء اللون وفي أغلب الأحيان كان يكذب علي كنوع من أنواع مزاحه، وأحمد أيضاً صاحب دمٍ ثقيل”، حيث لم تكن هذه المرة الأولى التي يخبرني بها عن خبر استشهاد أحد رفاقي فيكذب ويثقل دم ويذهب.
لم يكن مني إلا أن أنظر به نظرة استهزاء واستخفاف حيث أني كنت مصراً ألا أقع ضحية لكذبته ككل مرة فقلت له ” أيها الأحمر هذا ليس بوقت تمزح به اذهب من هنا واتركني”، لكن إحساساً ما وكأنه ناقوس خطر في داخلي كان يقول هذه المرة إلا يكذب.
كانت عينا أحمد تفضحان حزنه الشديد، تلك العينان لم تعد قادرة على حبس بكاء وألمه الشديدين بعد أن سمع نبأ استشهاد صديقنا “عبدو”.
يا الله كم تمنيت أن يكون أحمد كاذباً كما كان في كل مرة، لماذا لم يكذب في هذه المرة أيضاً ؟!، فنختلف وتشتَّد ألسنة اللهب بيننا فينتهي الموضوع، ونتصالح بعد نصف ساعة.
تفجرت دموع أحمد وتبعت عيونه عيوني، بكينا وهل يجدي البكاء بعد أن بات عبد القادر في الآخرة.
كان عبد القادر وأخوه حمزة من الأصدقاء الأوائل والقلائل لنا، عبدو كان زميلاً لي في مقعد الدراسة، وجاراً وصديقاً، طيب النفس قليل الكلام، لم تخمد نار النخوة والشهامة في فؤاده لثانية واحدة، لطالما ضحكنا وتسامرنا وبكينا سوياً، كنَّا “ربيعة شباب مساطيل” إذا ضحك واحد ضحك البقية.
أتذكر أنه في أحد الأيام بينما كنت جالساً في دكان أبي الصغير أتململ هنا، وأنقل أغراضه المغبرَّة من هنا لهناك، جاء عبدو وحمزة، وجلسا سوية، وإذا بعبدو يقلد المقدم الشهير فيصل القاسم لبرنامجه “الاتجاه المعاكس”، وبدورنا أنا وحمزة بدأنا بتقليد ضيوف البرنامج، الذين كانوا يقضون أكثر من نصف الحلقة بشتم بعضهم البعض ولعن أحزابهم السياسية، غالباً ما كانت تنتهي الحلقة بضربة قاضية إما بكرسي أو بدفتر أو حتى برشقة ماءٍ على الهواء المباشر.
يا الله كم تصبح تلك الذكريات مؤلمة عندما يغيب أحد ركائزها الأساسية، كم بكيت بصمت وحرقة فؤاد في اللحظة التي انهار أبواه وأخوته، كيف لا ينهارون وعبدو كان الشهيد الثاني لعائلته والرابع لآل العبد الله، كيف لا ننهار ونبكي حرقة وجدته المسكينة تبكي وتودعه وكأنما دموعها نهر النيل المنهمر في بحر صبرها الجبار.
كانت تلك المرة الأخيرة التي أرى بها أخي وصديقي عبدو، جسداً واحداً.
محمد الموسى