ماكينة التوست الجديدة
لقد بدأ لقاؤنا الأول بشهقة فزع، كل الأصوات المفاجئة مهما كانت صغيرة تفزعها، طقة غلاية الماء الكهربائية، رنة جهاز الميكرويف، جرس الباب، رجة الهاتف عند استقبال رسائل واتس أب، بوق سيارة في الشارع المجاور، تشغيلي المفاجئ للتلفاز! كل صوت مفاجئ يجعلها تشهق في هلع واضعة كلتي كفيها على صدرها! لم ألتق في حياتي كلها امرأة مسكونة بالخوف مثلها! ومنذ اقتنائنا ماكينة التوست الجديدة هذه قبل أسبوع صار رعبها الأكبر لحظة خروج الخبز! وكلما قفزت من الآلة شريحتا الخبز الشهيتان محدثتين تلك الطقة العالية قفز قلبها في صدرها وشهقت مرتاعة، تماما كما شهقت عند لقائنا الأول!
ولم أكن أعرف حين قيل لي قبل أربع سنوات أن مراجعة تنتظرني في المكتب، بأني سألتقي بالمرأة التي سأقع في حبها. بكثير من المرح والحيوية فتحت باب المكتب بسرعة ودخلت، لأرى أمامي شابة عشرينية قصيرة تقفز فزعة من كرسيها لتضم كفيها إلى صدرها وتشهق!
لم أستوعب الأمر في البداية، تسمرت في مكاني متأملا إياها بدهشة، لكن ضحكتها المرتبكة المصطنعة التي غلفها خوف متشبث بمحياها بعناد كانت كافية لأفهم الموقف كله، فاعتذرت منها عن دخولي الصاخب المفاجئ، وطلبت منها الجلوس.
لم تكن بالغة الجمال، بل كانت في الحقيقة فتاة عادية، لكن شيئا ما في ملامحها استقر في قلبي بعمق، لعلهما حاجباها المائلان نحو الأعلى بشكل يعطي وجهها دوما طابعا حزينا حتى لو كانت تضحك، أو ربما ذقنها المستديرة البارزة قليلا للأمام، والتي تذكرني بذقون الأطفال في الأشهر الأولى من أعمارهم. لا أدري بالتحديد، لكن تلك الفتاة المسكونة بالخوف من أي صوت مفاجئ ملكت قلبي، وأصبحت بعد عدة أشهر زوجتي. بدا الأمر لها محرجا في البداية، كانت شهقاتها المتكررة خلال اليوم تُشعرها بالسخافة، لكنني على العكس من ذلك كنت أجد هلعها من هذه الأشياء الصغيرة فرصة مواتية لضمها إلي، وكان يعجبني أنها تبدو في حضني لقصر قامتها مثل طفلة صغيرة!
صحيح أنني اضطررت إلى خفض رنين جرس الباب، ووضع جهازي المحمول على الوضع الصامت في غالب الأوقات، وصنع الشاي بنفسي أيضا في غالب الأوقات، لكن كان هناك ثمة دوما مواقف تجعلها ترتمي على صدري مرتاعة!
لقد ظل الأمر جزءا لطيفا من حياتنا حتى بدأت الحرب! كانت نازك حاملا في الشهر الأول حين سقطت أول قذيفة في حينا محدثة بعد الصفير ذلك الدوي الهائل الذي ارتجت له النوافذ. يومها لم تكن الشهقة كافية لتستوعب كل الخوف الذي شعرت به نازك، بل إنها ركضت مسرعة تستنجد بي بينما الدموع تسقط من عينيها دون توقف، رغم أن وجهها لم يكن يحمل من شدة الرعب أي تعبير!
يومها بقيت معانقا إياها عشر دقائق كاملة أو ربما أكثر. يدي تمسد شعرها، وذراعاي تضمانها بشدة، بينما هي ترتجف وتبكي منتحبة، تتشنج تارة وتارة يتراخى جسدها. وكنت قادرا وهي بين ذراعي على الشعور بنبض قلبها الهادر في كل عرق من عروقها، بدت بين يدي وكأنها قلب عار! وكأنها شريان كبير ينتفض دون توقف!
عند القذيفة الثالثة فقدت نازك طفلنا الأول، لم أكن موجودا حينها لأضمها وأهدئ من روعها، كان عليها أن تواجه خوفها هذا بمفردها في بيت اهتزت جدرانه كلها جراء الانفجار.
بقيت الليل كله أمسد شعرها وعضديها وهي تبكي منكمشة على نفسها في السرير. لقد خُلقت نازك لتكون أما، رأيت ذلك في عينيها ذوات الحاجبين المائلين منذ اللقاء الأول، وربما لأجل هذا تزوجتها، وها هي الآن تتجرع لوعة فقدان ابنها الأول!
لم تعد الأمور سهلة أبدا علينا، كنت وأنا في العمل يتآكلني القلق كل ثانية عليها، وتحول قلقي هذا إلى هلع من أي صوت مفاجئ، من رجة هاتف، من طقة غلاية كهربائية، من بوق سيارة! لقد شفيت نازك من خوفها القديم من الأشياء الصغيرة، لكنني كنت أنا هذه المرة من يشهق قلبي خوفا من أي صوت مفاجئ، كنت أتوقع القصف في أي لحظة، وكنت مرتاعا من أن تُرعِب نازك قذيفةٌ جديدة وهي وحدها في المنزل! لم أفكر أبدا في الموت، لم أكن خائفا عليها من الموت بقدر ما كنت خائفا عليها من الخوف نفسه!
لكن في الفترة الأخيرة لم يعد وجودي مع نازك ذا جدوى، لأن الخوف بات يتملكني أنا أيضا مثلها، فلقد بدأ قصف الطيران يستهدف البلدة. كنا طوال الوقت نتظاهر أنا ونازك بأننا نعيش حياة طبيعية، لكننا كنا مسكونين بالرعب، نتجنب أن تتلاقى نظراتنا كي لا يرى أحدنا الهلع في عيون الآخر، كما كنا نتجنب أيضا أن نتواجد في غرفتين مختلفتين. بشكل ما كنت أنجح في اختلاق أي حجة للحاق بها إلى المطبخ، وكذلك كانت تفعل حين كنت أقصد الحمام لحلاقة ذقني أو تفريش أسناني.
كان هدير السوخوي أو رفرفة المروحية يجعل نازك تبدأ بالارتجاف فورا لتسقط على ركبتيها أو على أقرب كرسي، مبللة ثيابها أحيانا، لم تعد قادرة حتى على الركض نحوي، كنت أنا الذي أهرع إليها لأشدها من ذراعها إلى أكثر أمكنة البيت تحصينا، الصالون الداخلي. وعلى الأرضية كنا نجلس متعانقين فأضمها وأنا أذكر الله وأردد الشهادتين.
كان عذابا أن يطول الهدير ولا تقصف الطائرة بسرعة، كنت أردد في داخلي: هيا اقصفي، اقصفي وأريحينا!
فينطلق الصاروخ أو يسقط البرميل وترتج الأرض كلها من تحتنا لتطلق نازك في حضني صرختها الملتاعة!
فأظل معانقا إياها وأنا أردد:
-معليش حبيبتي… معليش… انتهى الأمر!
لكن في ذلك اليوم الذي قُصف فيه البناء المجاور لنا، ليودي بالطوابق الثلاثة الأخيرة مع سكانها، لم أكن قادرا على قول أي كلمة لنازك أو على شدها من ذراعها للصالون الداخلي، فنحن لم نسمع هدير الطائرة أبدا، لأن القصف سبق الهدير هذه المرة، كل ما شعرنا به مع صوت الانفجار المدوي هو الأرض وكأنها تتشقق من تحتنا، والجدران وكأنها تتراقص من حولنا، ثم رجةٌ جبارة تلقي بنا إلى الأرضية، بينما اللوحات تتساقط والمصابيح تتكسر، وزجاج النوافذ يتفجر وخشب إطاراتها يُقتلع، لتتناثر الشظايا في كل أرجاء الغرف، وليُقذف باب المنزل من مكانه ويضرب حائط الصالون الداخلي بقوة!
كان رحمة من الله أننا لم نسمع الهدير لنحتمي بالصالون الداخلي!
وفي أقل من ثانية، كان الدخان والأتربة والغبار والرماد قد حجبوا رؤية كل شيء، بينما أصوات كالخشخشة تصدر من كل مكان!
احتاج الأمر مني ثوان قليلة حتى أستوعب ما جرى، هذه المرة لم أشعر بالخوف فعلا، جرى كل شيء بسرعة كبيرة لم تتح لي فرصة للشعور بالخوف، لكنني قمت كالمجنون أدوس بقدمي الحافيتين على شظايا الزجاج وقطع الحجارة المتطايرة من النوافذ باحثا عن نازك، لم أستطع تبين أي شيء لشدة كثافة الأتربة المعلقة في الهواء، كنت أصرخ فقط وأنا أنقل بصري في كل مكان بعشوائية مصطدما بالأثاث مع كل خطوة، إلى أن لمحت طرف ثوبها الليلكي فهرعت إليها وإذ بها ممددة على الأرض بلا حراك.
ومجددا لم أفكر في الموت، ولو كنت فكرت في احتمال موتها لفقدت صوابي، لكنني كنت متأكدا من أنها إغماءة خوف، حملتها بين ذراعي وضممتها وأنا أهمس باكيا هذه المرة:
_ معليش يا عمري معليش…..
تلك كانت المرة الوحيدة التي انتحبت فيها بصوت عال قهرا وحزنا، وأنا أردد: معليش يا عمري معليش….
بكيت ربما حينها لأن نازك كانت مغيبة عني، ربما لأنها كانت غير شاهدة على ضعفي هذا…، لكن صرخاتي ضاعت مع عويل الجيران، واستنجاد الناس، وتكبيرات المسعفين الهارعين للمكان…..
جالسٌ أنا الآن على أريكة في منزل في قرية صغيرة من قرى ألمانيا، أتذكر ذلك كله، وأنا أراقب نازك وهي تتنفس بانتظام، غارقة في نوم مطمئن على أريكة مقابلة، وفي بطنها تحمل طفلنا الأول!
أتأملها، وأفكر…. لم يعد ثمة قذائف مدفعية، ولا طائرات سوخوي، ولا براميل متفجرة، وقد استعادت نازك الجميلة خوفها القديم لتجفل من أي صوت صغير، من رنة ساعة، من جرس باب، من بوق سيارة…. ويرعبها الآن أكثر ما يرعبها صوت ماكينة التوست التي ابتعناها منذ أسبوع، فتشهق حين تقفز شريحتا الخبز الأسمر الشهيتان من خارج الآلة، تضم كفيها إلى صدرها وتستنجد بي بعينيها الصغيرتين، فأتذكر ارتجافها القديم بين يدي كلما سقطت قذيفة أو ضرب صاروخ، أتذكر نحيبها المتألم وعينيها المتفجرتين بالدمع، ويملؤني نحوها شعور بالشفقة والحنان، لأجذبها نحوي وأضمها مطولا، مطولا جدا، لأمسح على رأسها وأهمس لها بلهفة:
– معليش، معليش، معليش يا حبيبتي!
فتسكن نازك في حضني، بينما أراقب أنا بعيني الدامعتين سحابة البخار، وهي تتصاعد بصمت من شريحتي الخبز الساخنتين!
ديما مصطفى سكران (ألمانيا_برلين)