غير مصنف

مع ساعات الفجر الأولى

اعتادت على روتين حياة جميل، فهي تنهض من الفراش كل يوم في الصباح الباكر لتعد القهوة لها ولزوجها ثم توقظه ليحتسيا القهوة معاً مع بزوغ الشمس على الشرفة المطلة نحو الشرق ويستمتعا بمنظر الشروق الرائع ، ثم ينطلقان للعمل بجد ونشاط وابتسامة جميلة، حيث يقطنان في مزرعة للطيور ويقومان بالعناية بها وكانا سعيدين جداً، وقد رزقهما الله بطفل ملأ عليهما حياتهما.

 كان طفلهما يبلغ من العمر سنة ونصف ولكنه كان كثير الحركة والحيوية والنشاط، وكان في بداية النطق، وهكذا كانا يقضيان حياتهما بسعادة وهناء، على الرغم من أنهما قد هجرا من بلدهما بسبب اشتداد قصف نظام الأسد لبلدتهما.

حيث نزحت أم يوسف وزوجها من بلدتهم التي التهمت الحرب معالمها إلى بلدة مجاورة منذ عامين، بحثاً منهما عن الأمان، ووجد أبو يوسف عملاً في مزرعة للطيور واتخذا منها سكناً لهما ولطفلهما الصغير بسبب سوء حالتهما المادية.

وذات صباح  ومع ساعات الفجر الأولى استيقظ الزوجان باكراً ولكن هذه المرة ليس من أجل احتساء القهوة معاً والاستمتاع بمنظر الشروق، ولكن استيقظا على صوت صاروخ طائرة هز المزرعة بأكملها وقد هدم نصفها، فهرعا إلى الخارج مسرعين وهما يحملان طفلهما الصغير ذو السنة والنصف …ليحتميا بالمزرعة المجاورة لمزرعتهما وما إن وصلا حتى كان الصاروخ الآخر أسرع منهما إلى المكان وتناثرت شظاياه في كل مكان واستقرت بعضها في أجسادهم الضعيفة وسقطا أرضاً من شدة الانفجار مغشياً عليهما ولم تستيقظ أم يوسف إلا في المستشفى ، وكان أول ما نطقت به هو السؤال عن فلذة كبدها طفلها الصغير يوسف وزوجها ، ولكن كل من حولها كان يشيح بوجهه بعيداً عنها ويتحاشى النظر في عينيها الداميتين، هنا عادت أم يوسف بذاكرتها للأيام الجميلة التي قضتها برفقة زوجها في المزرعة فقد كانت من أروع سنين حياتها على الرغم من كونهما في مكان بعيد عن بلدهما الأصلي ، وهي تحاول أن تبعد الأفكار السوداوية عن ذهنها وتدعو الله ألا يحرمها زوجها الحنون الذي طالما أحست معه بالأمان والراحة فكان هو الأهل والوطن بالنسبة إليها، فمن سيجلس معها على شرفة المنزل ويشاركها فنجان القهوة كل صباح ومن سيكون عوناً لها فيما تخبئه الأقدار القاسية في المستقبل ، ثم بدأت تستجدي الطبيب الذي جاء ليطمئن على حالتها وسألته عنهما فأخبرها بأن زوجها بخير وهو نائم في السرير الآخر وقد كسرت ساقه ، وهنا كفت أم يوسف عن الكلام وصمتت بسكون مرعب ربما لأنها لم تكن تريد أن تعرف الحقيقة.. حقيقة ما حصل .. فكل من حولها كانت نظراته توحي لها بأن هناك مصيبة قد حدثت وإن لم يكن زوجها فمن ؟؟…

تلعثمت الحروف على شفتيها وضاعت الكلمات منها أو بالأحرى هي تعمدت ألا تتكلم فقد سبقت دموعها الكلام وشعرت بخوف عظيم يعتريها وكأنها تائهة تعيش في الفراغ، لكن الطبيب استرسل كلامه بمواساته إياها بفقد صغيرها البريء وجنينها الذي حملت به في أحشائها مدة أربعة أشهر. ذهلت أم يوسف ولم تصدق ما سمعت، وكان صوت الطبيب يتردد في مسامعها محدثاً صداً عظيماً ويتكرر في اللاوعي لديها ويعلو رويداً رويداً إلى أن أغمي عليها ثانية من هول مصابها فقد عادت وزوجها وحيدين بسبب صاروخ طائرة غادر هدم حياتهما قبل أن يهدم مسكنهما، فقد كان كل أملها أن يكبر طفلها الصغير ويصبح رجلاً يعتني بها وبوالده وقت حاجتهم إليه، لكنه مات دون أن يكمل عامه الثاني تاركا ذكريات مؤلمة لوالديه .

  وكانت أم يوسف قد أصيبت بكسر في الحوض عوضاً عن الكثير من الشظايا التي استقرت في جسدها وبقيت وزوجها بلا مأوى أو عمل يقطنون في العراء ، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء تحت أشجار الزيتون ، لا يجدون من يعتني بهم أو يجلب لهم ما يحتاجون من دواء وغذاء .

بجسد منهك وذكريات يعتصرها الألم وصفت أم يوسف ما تشعر به من حزن وقهر كبيرين ..

وفاء المحمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى