رائد الفارس وحمود الجنيد عندما يترفَّع الفارس عن صهوة الجواد
كفرنبل.. لطالما تردد هذا الاسم على الشاشة الصغيرة الملوَّنة، (خرجت في كفرنبل مظاهرة، معركة تحرير كفرنبل، كفرنبل المحررة، نشاط ثوري في كفرنبل، راديو فرش في كفرنبل… الخ).
كان هناك رجل في الخفاء يعمل ويجتهد ليصل اسم كفرنبل إلى العالم أجمع، ارتبط اسم كفرنبل الثوري باسم هذا الشخص المجهول في اسمه الكبير في فعله.
رائد محمود الفارس ابن كفرنبل البار، كان له من اسمه نصيب بل وتجاوز عمله هذا الاسم البسيط، فهو رائد في كل المجالات التي عمل بها، لن أقول أنَّ الفارس ترجَّل عن جواده كما فعل البعض، بل سأقول أنَّ الفارس ترفَّع عن جواده ليترك مكانه لجيل قد تعب على إنشائه ورسم درب لجواده يركبه الفرسان من بعده.
أمَّا من رافق وشارك وعمل وتعب برفقة رائد فهو الجندي المجهول حمود الجنيد، صاحب البسمة العريضة والروح المرحة والقلب الطيب، الذي رافقته بسمته حتَّى آخر أنفاسه حياته الأخيرة.
كانت لرسومات كفرنبل الكاريكاتورية رونقها الخاص على الساحة السورية، حاكت الواقع ونقلت المعاناة وعكست صورة مختلفة عن الواقع المحلي للمناطق الثائرة على حكم نظام الأسد بعكس ما نقلته وسائل إعلام النظام.
دمجت اللوحات الكاريكاتورية التي أبدع بها الفارس بين المعاناة والفكاهة والنقد البناء، حتى بات الثائرون السوريون ينتظرون الجُمع بتلهف ليتابعوا الأفكار التي تجول في خاطرهم قد جسِّدت على لوحات كفرنبل، بل ولم يكد يخلو معرض دولي للوحات الكاريكاتورية إلا وقد شغلت رسومات الفارس حيِّزاً منه، وبذلك تجاوزت رسومات الفارس جغرافية مدينة صغيرة وانطلقت إلى العالم تروي قصة معاناة شعب أعزل.
لم يقتصر عمل رائد الفارس وحمود الجنيد على إيصال اسم مدينتهم الشهيرة كفرنبل بلافتاتها ونشاطاتها وحركاتها السلمية ضدَّ نظام القتل نظام بشار الأسد، بل شمل عملهم نقل معاناة ملايين السوريين إلى العالم العربي والغربي، وباتا شاهدين حيَّين على ما ارتكبت طائرات الأسد وحليفه الروسي من مجازر بحق المدنيين، ووثَّقا بكمرتهما مئات المجازر وعشرات القصص الإنسانية التي تحكي واقع شعب لم يثنه الموت عن نيل حرية طلبها وشعر بلذتها وأكسبته طعم الانتصار.
مطلع العام 2014 حاول مجهولون اغتيال رائد الفارس بعدَّة طلقات خرجت من فوهة بندقية حاقد، إلا أنَّها أبت أن تكتم صوته وتكسر ريشته، وتمت معالجته في مدينته الصغيرة كفرنبل، نُقل بعدها إلى الولايات المتحدة ليكمل العلاج هناك.
هناك خلف البحار والمحيطات والمساحات الشاسعة، أبى الجسد الضعيف الذي انهكته الإصابة إلا أن يشارك بالمحافل الثورية في البلاد البعيدة، بعد أن حمل على ظهره هموم ثورته التي مزقتها الأطراف الدولية والمحليَّة.
عاد رائد الفارس إلى مدينته كفرنبل رغم شعوره بالخطر الذي يلوح في أفق حياته، إلا أنَّه أصرَّ على استكمال ما بدأ به في راديو فرش التي أسسها عام 2013، الإذاعة التي جسَّد رائد أفكاره فيها وانتقل من الصورة المحاكية للواقع إلى بث هموم الناس ونقل معاناتهم بالطريقة المسموعة.
تابع رائد عمله الذي آمن به، وساعده في ذلك من أحبوه وآمنوا بفكره ونهجه رغم تعرُّضهم للمضايقات في بعض الأحيان والتهديد في أحيان أخرى، غُيِّب وحُبس وهُدِّد ولم يحني مسار دربه الذي رسمه في عقله وخطَّه للسائرين من بعده.
في 23 من ظهر يوم الجمعة من شهر تشرين الثاني لعام 2018 لم يكن كسابقه من الأيام، في وضح النهار وبدم بارد، تمَّ اغتيال كلمة ليست كغيرها وبسمة نادرة الوجود وفكرة استشهد صاحبها وغُرست في تربة خصبة ستنبت من جديد وتمتد على ثرى أرض ارتوت بدماء أبنائها.
خرجت مرَّة ثانية الرصاصات من بندقيَّة ملعونة، لتخترق جسده المنهك وقلب رفيق دربه حمود، فاضت روحيها إلى خالقهم ولم تسعفهم اللحظات الأخيرة من حياتهما في استكمال بعض من أنفاسهم المتبقية.
في يوم بارد وسماء قد غَصت بغيومها استلقى رائد الفارس وحمود جنيد على ألواح خشبية لا تليق بعظمة الاثنين، حُملوا على الأكتاف وسير بهم في طرقِ وأحياءِ مدينتهم الَّتي أحبوها، الَّتي لطالما حملوا من سبقهم وساروا بهم على ذات الدرب، مشى خلفهم من أحبوهم وآمنوا بفكرهم، وسير بهم إلى المثوى الأخير والمرقد الدافئ.
هناك على أطراف المدينة وبين شجر السرو والصنوبر الذي انتشر على جنبات المقبرة، حُفر للشهيدين مرقدهما الأخير وغُرس جثمانيهما تحت الثرى، وسقت دموع أبنائهم ومحبِّيهن تراباً سيخلِّد ذكراهم ويشهد على تضحيتهم إلى يوم القصاص من قاتل ستلاحقه لعنة جرمه ويحملها على أكتافه حتَّى يمثل بين يدي الحاكم العادل.
(إدلب- كفرنبل – محمد السطيف)