الصَّوتُ الحرُّ والفكرةُ المنيعة
عندما تكون ظلمةُ الليلِ حالكة، وتمسي الشمسُ حلماً يصعبُ الوصولُ إليه، عندما تُحاصَرُ النفوسُ الحرةُ منَ جميعِ الجهات، وتصبحُ الحياة كالنارِ المستعرة يحترقُ من يريد أن يأخذَ فيها نفساً، عندما يطولُ الصبر وتتحولُ الحياة إلى كابوس مميت، عندما تعتادُ على الموتِ وتختلطُ رائحة الدمِ المحروق برائحةِ الأرض والوردِ والهواء.
سيهيئ الله في نفوسنا فرساناً وجنوداً، يكونونَ صوتاً للمظلومِ وسداً منيعاً في وجهِ الطغاة والجبابرة.
في بداية عام 2011، أرادَ الله أن يخرجَ في تلكَ المدينة الصغيرة فرساناً وجنوداً ليسوا كغيرهم من الفرسان، فقوة البصيرة، الفكرِ والرؤية الجديدةِ كانت أوسمةً تلمعُ على صدورهم العارية أمامَ الطغاةِ والبغاة، كانوا فرسانَ الحريةِ والكرامة، فرسانٌ عزَّل لا يملكون سوى تلكَ الحناجرَ الذهبيةُ والأيادي المخملية، التي خطت العديدَ من الرسائلِ الساميةِ المناهضة للظلمِ والعنفِ والذلِّ.
من بينِ آلاف بل ملايين الجنودِ والفرسان، برز “رائد الفارسُ” و “حمود الجنيد”، في مدينة كفرنبل، كان رائدُ الفارس صوتَ الشعبِ الرنان كان صوته يمثل آلافِ المدنيين، وأما حمود جنيد هو جنديُ العدسة الذهبيةِ، العدسة الخالدة التي لم تترك معاناةً سببها النظام الغاشمُ إلا ودونته بين طياتها، وكانت سبباً أساسياً لنقلِ تلك المعاناةِ للعالمِ أجمع.
زاولَ البطلانِ الحراكَ الثوريَّ منذُ ولادتهِ، منذ أيامهِ الأولى، حيثُ كانا من أولِ الناشطينَ الثوريين الذين استطاعوا توثيقَ معظمَ الجرائمِ التي ارتكبت بحقِ المدنيين منذُ بدايةِ الحراك.
في اليومِ الأول من شهرِ نيسان لعامِ 2011، خرجت صرخةُ الحريةِ الأولى هذهِ المدينةِ الصغيرة مساندةً لمظاهراتِ درعا وشهدائها، كان رائد سعيداً جداً بكسرهِ حاجرَ الخوفِ في تلك المظاهرة، كانت هذهِ المظاهرة هي الشرارةُ الأولى لثورةِ الشمالِ السوري، واستمرت المظاهرات والوقفات التضامنية مع شهداء الثورة مع استمرارِ عملياتِ القمع الوحشي والجرائم الهمجية لتلكَ الحشودِ الغاضبةِ، وبرغمِ الإمكانيات التي باتت شبه معدومة استطاع رائد وحمود توثيقَ معظمِ جرائمِ النظام وجنوده.
في مطلعِ عامِ 2014 قامَ مجهولونَ بمحاولة اغتيالِ فارس الصوتِ و الحريةِ، نعم نجحوا بإيصالِ رسالتهم عندما ثقبوا رئتيه، ونجحوا بإيصالها عندما بقي شهوراً أربع على سريرِ الإصابة، لكنهم فشلوا بإسكات صوته عندما رفض رسالتهم وشارك بالمحافلِ الثوريةِ الدوليةِ رغمَ رئتهُ المثقوبة، ووضعهِ الصحي المتردي، رغم أنه مدركُ تماماً للتهديدِ الذي سيحيطُ به من جميعِ الأطراف، مع ذلكَ لم يتوقف عن قول كلمتهِ لم يتخلى عن مبادئهِ ولم يخف ويهزع لقوة السلاح، كان يؤمنُ بقوةِ الصوتِ الحر حتَّى أنه استطاعَ أن يرسخ كلماته الذهبية في قلوبِ محبيهِ والحاقدينَ عليهِ على حدٍ سواء، ولطالما كان يقولُ ” إنَّ أصواتَ أسلحتكم لا تقتلُ صوتَ حريتنا”.
شارك رائد الفارس في العديدِ من المحافلِ الثوريةِ الدوليةِ التي من شأنها أن تظهرَ للعالمِ مدى قوةِ هذا الشعب وثورته، كان يؤمن بقوة شعبه من خلفه كما وثقَ الشعبُ به، في عامِ 2017 وفي مؤتمر أوسلو للحريات، بحضورِ ممثلينَ من دولِ الاتحادِ الأوربي، وعد الفارسُ بأنَّ هذهِ الثورة ستغيرُ الشرقَ الأوسط كما غيرت الثورةُ الفرنسيةُ وجه القارةِ العجوز، ستغيرها لأنها قامت بتغيرنا من الداخلِ، لأنها جعلت من الألمِ المكبوتِ داخلنا بنادقاً في وجهِ الطغاةِ، وأقلاماً بيدِ أبنائها.
أرادَ رائد أن ينقذَ الشعبَ السوريَ من جريمةُ الصمتِ تلك الجريمة الفظيعة التي تخللت بداخل المظلومين في الخمسةِ عقودٍ السابقة، أفظع جريمة ارتكبت بحقهم يوماً.
أن يكونَ صوتنا مسموع في الداخلِ والخارج، أن يكون شخص كالفارسِ هو ذلك الصوت لشرف كبير وحلم منتظر، حلم باتَ من المستحيل أن يتحقق، فاستطاعَ ذلك الفارسُ أن يجعلَ العالمَ يتصدَّعُ لسماعِ صوتنا، ورؤيةِ ما يتعرضُ لهُ هذا الشعب اليتيم من مجازرٍ وجرائمٍ لم تشهد لها الحضارةُ الإنسانية سابقاً.
فقدت الثورةُ ابنيها المخلصين في الثالث والعشرينُ من شهرِ تشرين الثاني لعام 2018، وشاءت الأقدار أن تسلبَنا صوتنا.
في هذا اليوم يومِ الجمعة، زفت الثورة عرسها الأخير باستشهادِ رائد وحمود، بعدَ أن قامَ مجهولونَ بفتحِ نيرانِ بنادقهم الحاقدة على صدريهما العاريين، لتفيضَ روحيهما لبارئها، وتنتهي مسيرةٌ كللت بالفخرِ والكرامةِ لبطلين، جعلا من نفسهما طريقاً تسيرُ عليهِ الأجيالُ اللاحقة، ومثالاً يحتذى به للثورةِ السلمية.
محمد عمار سطيف ( إدلب_كفرنبل)