ما بُنيَ على الخوفِ يُهدمُ به..حضارةُ الأزتكِ وسوريا الأسد
في عام ألفٍ وخمسمئة و واحدٍ وعشرين كان أهلُ المكسيك القدامى يعتقدون بأن آلهتهم خلقوا العالم أربع مرات فخرب في كل مرة، فقرروا في المرة الخامسة أن يضحي أحدهم بنفسه ليحيي العالمَ، فاقترعوا ووقعت القرعة على إله قويٍ وغنيٍ يدعى “تيكوسس تيكاتل”، وأوقدوا له الأخدود وانتظروا ليقلي نفسه فيه ليصبح هو الشمس فيحيى به العالم، إلا أنَّ تيكوسس تيكاتل خافَ وتتردد ثلاثة مرات، فرآه إلهٌ آخر فقيرٌ مريضٌ ملقبٌ بذي القروح يدعى “ناناواتسينغ” فرمى بنفسه في النار بدله، وحينَ رآهُ الإلهُ الثريُ الخواف استحى ورمى بنفسه هو الآخر، فخلق العالمُ بشمسين، فخاف الآلهة على العالم من الاحتراق، فرمى أحدهم بوجه الشمس الثانية التي تكونت من الإله الخواف بأرنب فصغرت تلك الشمس وبردت وشحبت خجلاً وبقي شكل الأرنب في وجهها تذكيراً بعارها، لقد تحولت إلى القمر.
ومنذ ذلكَ الحين وشعبُ “الأزتكِ” في المكسيك القديمة وبحسبِ اعتقاده، مطالبٌ برد الجميل للآلهة بتقديم تضحية بشرية كل يومٍ للشمس وإلا أنها لن تشرق في الصباح التالي.
هي قصةٌ لطيفة لولا أن الملوك والكهنة والسذج من العامة أخذوها على محمل الجد، فكان ملوكُ المكسيكِ القدامى يضحون بأشجعِ أسراهم وأشهدهم قوة وبأساً، حيث كان يقدمون آلافَ الضحايا في مناسباتهم الدينية ومواسمهم الزراعية، حتى قيل إن جدران المعبدِ الأكبرِ في العاصمة كانت مغطاةً بطبقةٍ سميكةٍ من الدماء البشرية.
أما طرق قتل الضحيةِ فمختلفة، لكن أشهرها في الكتب هي نزع القلب، حيث يعامل الضحية على أنه إلهٌ لفترةٍ من الزمن، ثمَّ يلونُ جسده باللون الأزرق إشارةً إلى أنه قد أمسى من أهل السماء أي أنه باتَ من حقِ الآلهة، ثم في الصباح التالي يُؤخذ هذا البائس السماوي إلى قمة معبدٍ ما ويقيد اثنان من الكهنة يديه وقدميه، بينما يقومُ ثالثٌ بفتحِ صدرهِ وأخذ قلبه ووضعه في إناءٍ مقدس، ثم يلقى القلب في النار ويلقى جسد الصحيةُ فيتدحرج من قمة المعبد إلى أسفله.
ألا يصابُ أحدُ الكهنة بطعناتِ المرض ليومٍ واحدٍ طوال خمسة قرون فيعجزوا عن تقديمِ التضحية؟، وفي الصباح التالي يرى الناس الشمس أشرقت على الرغم من ذلك، فيدركوا كم أن كهنتهم وملوكهم مجانينٌ ومجرمون.
أيعقلُ أن لم يكن بينهم مجموعةٌ منافقةٌ تودُ اختبار ظاهرة نهاية العالم تلك، فلا تقدم الضحايا حتى لو انهار العالم، فتعرف حينَ يبقى العالم سليماً أن كل هذا خداع وكذب، هل كان الناس مؤمنين إلى هذا الحد!؟.
لم يكن شعبُ “الأزتك” مؤمنينَ ولا متدينين، ولكنَّ السياسة هي التي جعلت هؤلاء الناس خائفين، وجعلت من الملوك والكهنة أقوياء وطغاة على أكتافهم، فقد كان تقديمُ الأضاحي البشرية سبيلاً من سبل السيطرة والحكم.
لم يكن الهدف من تقديم الضحايا تهدئة الآلهة بل كان الهدف تخويف العامة، لقد اخترع الكهنة الآلهة وقصص الآلهة، ليعطوا لنفسهم سلطة النظامِ الشرعي الاستبدادي الذي يمارس سلطته بعمليات القتل والإبادة الجماعية علناً وعلى مرأً من الجميع ومسمع، ولتقديم الأضاحي فائدة أخرى وهي الحرب ولتقديس ذلك الجزء من المجتمع الذي يحتكر حمل السلاح، أي الدولة والمؤسسات العسكرية.
إن الجيش هو الطريقة الوحيدة التي تنقذ الفرد من ذلك الخنجر المقدس على القمة المقدسة، فإن انتصر جيشه فقد نجا وإن هزم قد يرى نفسه مطلياً بالأزرق ويرى قلبه منتزعاً من صدره بعينيه.
ولا شيء يضاهي قسوة الحاكم والكاهن في قتل من هو أضعف منهما، في قمع الشعب وحرقه، إلا خوفهما في مواجهة الغزاة، فعندما جاء الإسبان إلى المكسيك، قال بعض الكهنة للناس إن الإسبانَ آلهة، وإن قائدهم ما هو إلا تجسيد لإله الحكمة المدعو “كواتي كواتل” والذي تنبأ أجدادنا بقدومهِ من البحر.
وحين قام قائد الإسبان ملك المكسيكيين وهدده بالقتل إن لم يأمر جنوده بالاستسلام، أمر الملك بصفته القائد المفدى والكاهن الأعظم قومه بالاستسلام للغزاة، ثم قتله الإسبان طبعاً.
وفي مكانٍ آخر من العالم وبعدَ أربعة قرونٍ ونصفَ القرن، اجتاحت القوات العسكرية البعثيةُ بفكرها واستبدادها واجرامها معظم أجزاء الوطن العربي.
وفي سوريا قام حافظ الأسد بأكبر عملية انقلاب عسكري بظل حركة التصحيح، ومن هنا بدأت أيامُ الحكمِ بالخوفِ والرعبِ والإرهاب.
نظامٌ مخابراتي بحت، لم يميز بين كبيرٍ وصغير، أعطى الأفضلية بالحياة والحريات لأقليةٍ دينيةٍ في المجتمع، واستعبدَ ما تبقى منه.
استمر النظام الطائفي بالحكم خمسة عقودٍ، استباح فيها ما كان محرماً وابتكرَ ديناً بل أدياناً جديدةً تناسب طريقةَ حكمهِ.
في حضارة الأزتك كانت قرعة التضحية البشرية تقع على كل من تجرأ وفكر أن يقولَ لا، أما في النظام البعثي لم تكن هناك قرعةً للتضحية بل كانت هناك معتقلاتٌ وسجونٌ ممتلئةٌ، بضحايا الرأي والفكر الحر يُضحَى بهم في سبيل (الحفاظِ على أمن البلد وأهله)، أو استمرار الحكم وعدم زعزعة استقراره واستبداده.
وفي الثامن عشر من شهرِ آذار من عامِ ٢٠١١، كسرَ أبناءُ الشعبِ السوري الحر حاجزَ الخوفِ الأول، اهتزَّ عرش الظالمِ وبدأ يقتلُ ويريقُ الدماء عسى أن يدعم الشعورَ بالخوف في نفوسِ المتظاهرين، إلا أنَّ فعلته كسرت الخوف والشعور به في النفوس، ما دفع الشعب السوري بكافة أطيافه الدينية والاجتماعية للخروج والنداء بإسقاط هذا المستبد، لينتهي الخوف وأسبابه في القلوب، ليسقط النظام في الفكر والنفس والقلب قبل أن يسقط من الحكم والسلطة.
إن حضارةً قائمةً على الخوف لا القناعة، لن تصمد أمام غزاةٍ هم أضعفُ منها.
كانت قوات الإسبان تعد بالمئات أما القوات المكسيكية كانت ثمانين ألفاً لكنها تدربت على الخوف أكثر من تدربها على السلاح.
سقط معظم العالم الغربي جفلةً وتفاجئً وخوفاً من بضع مئاتٍ من الغرباء لأن ثقافتهم كانت قائمةً على الخوف.
إعداد: محمد العبيدو