عمليات التهجير .. ماذا نتج عنها؟
التهجير القسري يعرّفه القانون الدولي الإنساني بأنه “الإخلاء القسري وغير القانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها”، وهو ممارسة مرتبطة بالتطهير وإجراء تقوم به الحكومات أو المجموعات المتعصبة تجاه مجموعة عرقية أو دينية معينة، وأحيانا ضد مجموعات عديدة بهدف إخلاء أراضٍ معينة لنخبة بديلة أو فئة معينة.
تغيير البنية الاجتماعية في سوريا ما بين التشيع والتهجير
وفي مرحلة ما بعد اندلاع الثورة السورية ووقوف إيران وحزب الله وميلشيات شيعية عسكرياً مع نظام الأسد، تبدلت استراتيجية التشيع والتي تحتاج إلى وقت وجهود لتحل محلها عمليات متسارعة من التهجير القسري والتغيير الديموغرافي. ولم تكن سوريا استثناء فقد سبقتها وما تزال تسابقها عمليات تهجير وتغيير ديموغرافي في العراق تستهدف العرب السنة تحديداً وبشكل واضح وفاضح.
وقد صدرت عن بشار الأسد مواقف وتصريحات مباشرة وغير مباشرة تتناول مسألة التهجير القسري والتغير السكاني، منها:
في كلمة مطولة إلى رجال دين تابعين لنظامه خلال لقاء جمعه بهم في نيسان 2014، قال بشار الأسد إنه: “يوجد عشرات الآلاف من الإرهابيين السوريين ويقصد الثوار، وأن خلفهم حاضنة اجتماعية تقدر بملايين السوريين معتبراً أن ذلك يعني أن البلاد أمام حالة فشل أخلاقي واجتماعي، وكان بشار الأسد في كل مناسبة يلصق بالثوار صفة الإرهاب، وهدفه العبث بديموغرافية سوريا”.
بعيد إتمام عملية التهجير القسري في داريا وعقب أداءه صلاة عيد الأضحى يوم 12/9/2016 في المدينة الخاوية على عروشها والمفرغة تماماً من أهلها وأبنائها، وقال بشار الأسد:” عملياً سوريا كأي بلد متنوع، الحالة الديمغرافية تتبدل عبر الأجيال بسبب مصالح الناس الاقتصادية، والحالة الاجتماعية والظروف السياسية تتنوع لذلك لا تستطيع أن ترى مدينة كبرى ولا صغرى طبعا لا أتحدث عن الريف فالقرى وضع مختلف لكن المدن دائما تكون متنوعة وخاصة داريا والمدن التي تكون قريبة من المدن الكبرى كدمشق وحلب فهي مدن متنوعة لا يمكن أن تكون من لون واحد وشكل واحد”.
واتبع سياسة الحصار والتدمير والتخيير بين التهجير والإبادة: محاصرة المدن والقرى وتجويعها وحرمان أهلها من مقومات الحياة. وإجبـار السكان المحاصرين علـى توقيـع هـدن مقابـل وقـف القصـف عليهـا تمهيـدا لتهجيرهم من مدنهـم وقراهـم، تحـت ضغـط الجـوع والحصـار والتهديد بالإبادة. سياسة بـدأت عـام 2013، وأصبحت سياسة معلنة ومطبقة بعدها
بدأت قوات الأسد وداعمها الإيراني ومن بعده الروسي بتطبيق سياسة تخيير المحاصرين من أهل المدن والقرى المستهدفة ما بين التجويع والإبادة أو التسفير والتهجير، بشكل علني عام 2013 وتصاعد الأمر ليصل إلى مدينة حلب نهاية العام الماضي، فقد اتبع الأسد هذه السياسية لإجبار الأهالي على الرضوخ والاستسلام له.
وفي عام 2013 اجتاحت مليشـيات حـزب الله مدينة القصير، وهجّرت أهلهـا ودمـرت مسـاجدها، ومنعـت أهلهـا مـن العـودة إليهـا، ووطنـت مكانهـم شـيعة مـن مليشـيات طائفيـة وأهمهـم لـواء الرضـا مع عائلاتهم، وشهدت المدينة التي تحولت إلى ثكنات عسكرية ومراكز لتدريب الميليشيات الشيعية عرضا عسكريا كبيرا لحزب الله في عام 2016.
وقد بدأ تطبيق سياسة التهجير القسري والتغيير السكاني من مدينة حمص، فقد تعرضت أحياء المدينة القديمة والتي تسكنها أغلبية سنية إلى قصف واسع وتدمير شبه كامل دفع معظم أهلها للجوء والنزوح. وبعد حصار دام لعامين، انتهى بعقد اتفاق بين نظام الأسد والثوار برعاية روسية في 4 أبريل 2014، يقضي بإخراج المقاتلين البالغ عددهم 2250 مقاتلاً، إضافة إلى المدنيين الذين كانوا محاصرين معهم في المدينة إلى الريف الشمالي.
وكانت منطقة الزبداني من المناطق المستهدفة بالتهجير والتغيير السكاني، ففي مفاوضات جرت آب 2015 بين وفد إيراني وحركة أحرار الشام بالنيابة عن “جيش الفتح”، طالب الإيرانيون بمبادلة السكان الشيعة في كفريا والفوعة الواقعتين في إدلب بسكان الزبداني الواقعة في ريف دمشق وبشكل متعاكس، وهو ما رفضته فصائل الجيش الحر وأدى إلى انهيار تلك المفاوضات، وقد استمرت محاولات التهجير السكاني المحمومة بوتيرة متسارعة من نظام الأسد.
وبعد أربع سنوات من الحصار والجوع والقصف لمدينة داريا، والتي أجبرت من بقي من سكان داريا على التفاوض مع نظام الأسد في أب 2016، والقبول بالتهجير القسري الذي فرضه عليهم أو إبادتهم، لتتحول المدينة التي كانت تضم 250 ألف نسمة قبل الثورة إلى مدينة فارغة من سكانها وخاوية على عروشها.
وفي يوم19/10/2016 تم إخراج مئات المقاتلين مع عائلاتهم من معضمية الشام نحو إدلب شمال سوريا، بعد سنوات من الحصار القاس وبعد عمليات القصف المستمر دخلت معضمية الشام في ريف دمشق الغربي في مسار التهجير والتغيير الديموغرافي ليكتمل بالتهجير ما بدأه النظام باستهداف الحياة حصاراً وقصفاً.
وقد تـم تهجيـر أغلـب سـكان مدينة حلب تحـت القصـف المتواصل والبراميـل والصواريخ، فتناقـص عـدد سـكانها فـي المناطـق الشـرقية التي كانت تحت سيطرة فصائل جيش الحر منذ عام 2012، مـن نحو ثلاث ملاييـن إلـى 300 ألـف نسـمة، ومع اشتداد الحصار القاتل والقصف الروسي بأسلحة وصواريخ متطورة وفراغية رضخت فصائل الجيش الحر، وتم توقيع اتفاق في ديسمبر 2016 والذي نص على تهجير ونقل المقاتلين وعشرات الآلاف من المدنيين نحو ريف حلب أو محافظة إدلب.
المواقف الدولية من التهجير القسري
ترواحت المواقف الدولية مما يحدث في سوريا من تهجير قسري وجرائم حرب من مواقف سلبية تحاول التستر والتهرب من مسؤولياتها بتصريحات وتنديدات لفظية جوفاء إلى تواطؤ وتورط بأشكال عدة في التهجير القسري إن كان بأساليب مباشرة أو غير مباشرة.
لعبت الأمم المتحدة دوراً سلبياً للغاية منذ بدايات حملات التهجير القسري 2013 وترواح دورها بين الوساطة غير الأخلاقية في اتفاقيات التهجير القسري أو الإشراف عليها. وعلى الرغم من صدور قرارات من مجلس الأمن ومنها القرار 2254 والذي تضمن إدخال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، فإن مجلس الأمن والأمم المتحدة عجزت أو تظاهرت بالعجز أمام قصف الطائرات الروسية، فقد كانت معظم المساعدات تذهب إلى مناطق نظام الأسد، في الوقت الذي لا تصل فيه سوى 4% من المساعدات إلى مناطق فصائل الجيش الحر.
عقب بدء عملية الترحيل من حلب الشرقية صرح المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا في 22 ديسمبر 2016معبراً عن عجز الأمم المتحدة أمام الوضع في سوريا: “ذهب الكثيرون منهم إلى إدلب التي يمكن أن تصبح حلب التالية.
وكانت سياسات الولايات المتحدة في سوريا قد شجعت وبطريقة غير مباشرة جريمة التهجير القسري والتطهير العرقي من خلال سياساتها القائمة على تأجيج الطائفية والعرقية في سوريا أيضا، فواشنطن تدخلت بشكل مباشر وجيشت العالم من أجل مدينة عين العرب-كوباني في حين لم تحرك ساكنا وهي تشهد تدميرا شاملا وممنهجا لقرى ومدن سورية تسكنها غالبية عربية سنية.
أما الدور الروسي في جريمة التهجير القسري في سوريا كان صريحاً وواضحاً ومن غير مواربة ولا مداهنة، بدا التحريض الطائفي والذي يشكل بذرة السوء للتهجير القسري الروسي مبكراً حين صرح لافروف في مارس 2012 بأن روسيا لن تسمح بقيام حكم سني في سوريا، وأطلق تصريحه المستهجن في وقت كانت الثورة السورية ترفع شعارات وطنية جامعية بعيدة كل البعد عن التهميش والإقصاء، ثم جاء التدخل العسكري الروسي السافر والعنيف في سبتمبر 2015 ليعيد ويجدد تطبيق سيناريو غروزني في القصف واستخدام أسلحة فتاكة وصواريخ مدمرة وفراغية ومن بعد قنابل النابالم الحارقة لتخير المحاصرين في البلدات السورية بين الإفناء أو التهجير، وبذلك يعبد التهجير القسري الطريق ويمهده لتقسيم سوريا ربما كبداية لإعادة رسم خريطة المنطقة وتفكيكها وتشكيل الشرق الأوسط الجديد والذي ما فتىء يبشر به كثير من المسؤولين الدوليين وعلى الأخص الأمريكيين منهم.
التهجير وتمزيق الكتلة البشرية الأكثر تماسكا والتي تشكل العمود الفقري في المنطقة والتي تتقاطع مع المكونات الأخرى بالدين والقومية والمذهب -العرب السنة- سيؤدي لاستمرار هيمنة الدولة العبرية في المنطقة بل وتعزيزها بشكل ساحق ومطلق ولعقود. ولا يستبعد أن تستفيد إسرائيل من الصراعات العنيفة والحروب المدمرة مع الفراغ السكاني الناتج عن النزوح واللجوء الكبيرين في إقامة حلمها المنشود في إسرائيل الكبرى.
تدمير قطاع عريض وواسع من السوريين وتعريض إنسانيتهم لظروف قاسية واختبارات مريعة، وحرمان جيل كامل من التعليم وتمزيق الأسر وتحويل العمود الفقري للمنطقة –العرب السنة- إلى قضية إنسانية وإغاثية من الدرجة الأولى.
اهتزاز الاستقرار السياسي والاجتماعي في المنطقة وتحويلها إلى بؤر صراع داخلية متقدة ومتواصلة تفتح الباب على مصراعيه أمام التدخلات الأجنبية والحروب الداخلية والتي تحول بين المنطقة والتنمية والتقدم العلمي والتقني وتبقيها مختبرات تجارب وسوقا استهلاكية تستنزف مقدراتها الاقتصادية بشراء السلاح والحماية الخارجية ولو كانت وهما أو سرابا، حشر المعارضة في مناطق الشمال سياسة تهدف لخلق نزاعات داخلية في تلك المناطق لتقضي المعارضة على نفسها ذاتيا
ما حدث ويحدث في سوريا ضمن تواطؤ دولي يحول التهجير القسري من جريمة حرب وإبادة إلى أداة سياسية مقبولة بحكم الأمر الواقع وتحت شعارات إنسانية زائفة بذريعة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
تشريع وتقنين التهجير القسري وإشراف الأمم المتحدة على تنفيذه سيجعل من تكراره أمرا مقبولا ومألوفا. ومع كثرة ترداد الحديث عن يهودية الدولة العبرية من أوباما وغيره ومن سنوات وفرض نتنياهو الاعتراف الفلسطيني بذلك كشرط للتفاوض معهم، أمر يثير التخوف والريبة من تهجير جديد للفلسطينيين ضمن إعادة تشكيل المنطقة جغرافيا وديموغرافيا.
(تغريد العبدالله)