ذوو الهمم أو “الاحتياجات الخاصة” جنبًا إلى جنب مع بقية أفراد المجتمع
ذوو الاحتياجات الخاصة أو كما يطلق عليهم علميا (بذوي الهمم)، جزء لا يمكن إغفاله أو تهميشه، ضمن نسيج المجتمعات كافة، فلا يخلو مجتمع من وجود تلك الفئة، بغض النظر عن مستوى المجتمع، سواء كان متقدما أم ناميا.
ويعرف علم النفس والاجتماع ذوي الهمم، بأنهم أفراد لديهم إعاقة جسدية تحد من مستوى أدائهم لبعض المهام، التي يؤديها الأفراد السويين، ولهذا يحظون بمعاملة خاصة، ورعاية من نوع مختلف يتماهى مع وضع كل احتياج ومركزه ودرجته.
شكلت هذه المعاملة الخاصة وعلى مدار عقود عديدة، حاجزا نفسيا بين ذوي الهمم وأقرانهم من الأسوياء، حيث ساد عرف ما بوجوب تخصيص مدارس خاصة لأصحاب الإعاقات، ومناهج مخصصة لهم، ما خلق مجتمعا داخل المجتمع نفسه، وأدى بهؤلاء للانغلاق على أنفسهم، وتحجيم طاقاتهم وعطائهم، وعدم منحهم فرصا متساوية مع بقية أفراد المجتمع، ليتنبه الاخصائيون في السنوات الأخيرة لخطأ تلك النظرية بالنتيجة، وتبين لهم بعد دراسات عدة، أن من لديه احتياجا خاصا هو شخص قادر على الإبداع والتطور والتعلم، لالا يختلف كثيرا عن باقي أفراد المجتمع، في حال اتيحت له فرص التساوي في المعاملة، والعمل على دمجه بين أفراد المجتمع كأي فرد منه، بعيدا عن نظرات الشفقة والمواساة المبالغ فيها، والتي كانت تسود أغلب المجتمعات، ومازالت مستمرة في بعضها، حتى يومنا هذا.
تعتبر الدراسة اللبنة الأولى والاساس الذي يسهم في بناء شخصية الفرد، ورسم ملامحها المستقبلية، ولا شك بان الدراسة والتعليم لدى ذوي الاحتياجات الخاصة، يتطلب جهدا أكبر، وظروفا تناسب نوع الاحتياج لديه، فهناك لغة (برايل) المخصصة للكفيفين، ولغة الإشارة للصم والبكم، وغيرها من الوسائل المساعدة لنمو وتطور المستوى الفكري والتعليمي لديهم. بيد أن هذه الوسائل الخاصة لا تعني بالضرورة عزل ذوي الاحتياج عن مجتمعه الطبيعي، ضمن مراكز خاصة، فبعض التجارب أثبتت أن أصحاب الاحتياج الخاص، قادر على التكيف والاندماج وسط مدارس الطلاب السويين، والامثلة كثيرة حتى هنا في شمال غرب سوريا، يمكنك أن تتعرف لأكثر من طالب أو طالبة، يدرس او درس مع بين زملائه الطبيعين، وتمكن من مجاراتهم أو التفوق على بعضهم أحيانا، حاله حال الجميع.
تتابع رغداء الحسن 12(عاما)، دراستها في المدرسة الإعدادية القريبة من منزلها في بلدة حزانو، هي في الصف السابع اليوم، أنهت فصلها الدراسي الأول بتفوق، لم يمنعها العجز الذي تسبب به شلل في طرفها الأيمن، من متابعة تعليمها، ومشاركة مقاعد الدراسة مع زميلاتها، تقول رغداء: “معظم زميلاتي اليوم كن معي فسي المرحلة الابتدائية، لم اشعر يوما أنني غريبة عنهم، فهم أخواتي وأحس الحب من الجميع”.
تطمح رغداء لتصبح معلمة تعلم الأطفال في المستقبل، وستعمل جاهدة للوصول إلى حلمها ذاك.
يشارك حسن قطيني (16) عاما، زميلته رغداء بالحلم بالمستقبل، ولو أنه اختار ان يجتهد ليدخل كلية الطب، وأن يصبح طبيبا يعالج الناس، لم يقعد حسن كرسيه المدولب عن السعي لتحقيق حلمه، في العام الماضي حصل على شهادة التعليم الأساسي، وأخبرنا بانه كان يجلس على كرسيه في قاعة الصف رفقة زملائه المتعافين، دون أي إحساس بالنقص على العكس “كان يثبت جداراته في الحفظ والفهم، بشكل فاق الآخرين” بحسب تعبير حسن.
حصلت كريمة هي الأخرى على شهادة التعليم الأساسي العام الماضي، رغم عدم إلمامها جيدا بلغة البرايل التي يستخدمها كفيفي البصر، وتخبرنا بأنها اعتمدت على السمع وحفظ الدروس سماعيا، بخاصة عبر قنوات اليوتيوب، او الانتباه لشرح المدرسين في الصف، تقول كريمة: “لم يقلقني يوما كيف ينظر لي الآخرون، ما كان يقلقني وما زال هو حدوث ضوضاء ما قد تؤثر على قدرة الاستيعاب لدي”، “وهو امر يتساوى فيه المبصر والكفيف” تضيف كريمة.
اعتمد أحمد العبود، (32) عاما، على نفسه في قضاء أموره الشخصية، حتى بعد أن كف بصره في حادث مروري، وهو في سن السابعة عشر، وتابع حياته متكيفا مع إعاقته رافضا الاستسلام لها، أو ان يتلقى الشفقة من الآخرين، يقول أحمد: “دربت نفسي على التجول في ارجاء المنزل، كنت أؤدي جميع الأعمال، حتى انني كنت اصنع مخلل الخيار الذي احبه بنفسي، ولا اسمح لوالدتي باعداده”.
تزوج أحمد وهو اليوم أب لطفلين، ولد وبنت، يرعاهما ويحنو عليهما، ويساعد زوجته في أعمال المنزل أيضا بشكل يجعلك تظنه مبصرا للوهلة الأولى.
أكد الكثير ممن التقينا بهم، على أحقية أصحاب الاحتياجات الخاصة بالحصول على فرص متكافئة جنبا إلى جنب مع بقية أفراد المجتمع، وذهب بعضهم إلى أن الشخص الذي لديه احتياج خاص هو شخص متقد الذكاء غالبا، ومبدع بصورة تفوق الشخص العادي، مستدلين على شواهد وأسماء من التاريخ كابي العالء المعري الفيلسوف الشاعر، وبشار بن برد، وطه حسين وغيرهم الكثير.
ويجد البعض منهم أن دمج ذوي الاحتياجات الخاصة مع الأشخاص العاديين، يسهم باكتساب المعرفة الأكبر للطرفين، ويخلق جوا من المنافسة والتحفيز بصورة أفضل. هذا ما أكدته المدرسة والمشرفة التعليمية، رحاب الخلف، العاملة مع إحدى المنظمات الإنسانية التي تعنى بالشأن التعليمي، بخاصة لذوي الاحتياجات الخاصة، وبينت الخلف أن تجربة دمج الطلاب من كلا الفريقين، تم تطبيقه في أكثر من مركز تعليمي، وأن التجربة لقيت نجاحا وقبولا لدى الطلاب والكادر التدريسي أيضا.
ونوهت الخلف أن المشاريع التي عملت عليها شملت توفير بعض المستلزمات في المدارس المستهدفة بالتجربة، مثل الممرات المنحدرة المخصصة لصعود ونزول الكراسي المتحركة، أو تركيب دورات مياه خاصة بهم، وتوفير تدريبات للكوادر التدريسية لتأهليهم للتعامل مع الحالات المسجلة ضمن مدارسهم.
تصف الخلف تجربة الاندماج بقولها: “في البداية عانينا بعض الصعوبات في التأقلم وعانى الطلاب معنا، لكن ما هي إلا أسابيع قليلة حتى أصبح الطلاب أكثر ديناميكية وعطاء، واعتيادا على الأمر، وانخرطوا مع زملائهم الطبيعيين بشكل فاق توقعاتنا في البداية”.
يثبت أصحاب الاحتياجات الخاصة قدرتهم على التكيف مع ظروف حياتهم، وتمكن الكثير منهم من الاندماج مع أفراد المجتمع كافة، في كل المجالات، العلمية والأدبية والرياضية، ويبقى الواقع شاهدا حيا على قدرة هذه الشريحة من المجتمع، على التأقلم والعطاء وبلوغ حدود الابداع، ولا ينقصها سوى منحها الفرصة لإثبات ما هم قادرون على تحقيقه، واقعا لا خيال فيه.
بقلم: محمود يوسف السويد