متحدية ظروف الحياة.. أم منير تعمل خياطة نسائية ومدربة
في منزل صغير جدرانه مبنية من اللبن (طوب إسمنتي رديء النوعية) ومسقوف بغطاء بلاستيكي بلون أزرق مع عوازل، ومؤلف من غرفة واحدة قسمت إلى نصفين، وفي أحد أقسام هذه الغرفة وضعت ماكينة خياطة يدوية، وحبل من القماش وضعت عليه أقمشة شتوية وصيفية وزينة للفساتين، والقسم الثاني يحتوي على أثاث المنزل البسيط حيث تقطن فيه أم منير مع أطفالها، وعلى الرغم من الابتسامة المرسومة على شفتيها إلّا أن نظراتها وملامح وجهها تعكس حجم الألم والقهر الذي تخفيه خلفها.
أم منير (39 عاماً) مهجرة من بلدة “”بابيص”” بريف حلب منذ خمس سنوات بسبب تعرض منزلها لغارة جوية مصدرها طائرات نظام الأسد ما أدى إلى تهدمه حيث أصبح غير صالح للسكن، وتقطن حالياً في مخيم يدعى مخيم العهد، وهو قريب من بلدة قاح بريف إدلب الشمالي، ويخضع لسيطرة الفصائل الثورية المعارضة لنظام الأسد.
كانت أم منير تعيش حياة متوسطة في منزلها بقرية “بابيص” مع أولادها الأربعة “صبيان وبنتان”، وبسبب النزوح ساءت حالتها المادية كثيراً، ولم تجد عملاً سوى عملها السابق في قريتها “بابيص” بخياطة الثياب، وتتحدث عن معاناتها مع النزوح وتقول:
“بعد أن ذقت مرارة التهجير والنزوح مع أطفالي، قررت الاستقرار في هذا المنزل الصغير المؤلف من غرفة واحدة، والذي قمت بشرائه من المال الذي ادخرته لوقت الحاجة، وقمت بقسم الغرفة إلى قسمين، قسم خصصته للخياطة ووضعت فيها ماكينة الخياطة اليدوية، ومعدات الخياطة الضرورية، ووضعت الأقمشة والملابس على حبل يصل بين جداري الغرفة، والقسم الثاني من الغرفة خصصته للسكن لي مع أطفالي”.
مهنة الخياطة من المهن الشائعة بين النساء السوريات منذ القديم وحتى يومنا هذا، فكانت كل امرأة لا تجد مورداً تعيش منه مع أسرتها تتخذ منها عملاً لها، وخاصة النساء اللواتي لا يجد أزواجهن عملاً أو النسوة اللواتي ليس لهن معيل.
تتابع أم منير: “بعد أن كنت أمتلك منزلاً كبيراً في بلدتي وأعيش فيه مع أطفالي، آل بنا المآل إلى أن نسكن في هذا المنزل الصغير المؤلف من غرفة واحدة، كما كنت أمتلك ماكينة خياطة كهربائية، لكنني الآن أقوم بخياطة الثياب على ماكينة يدوية، ولكن الحمد لله على كل حال”.
وبدا على ملامح وجه أم منير الحزن والأسى عندما تذكرت ذلك اليوم الذي خسرت فيه زوجها بقصف لطيران الأسد على محطة الوقود التي كان يقف بجانبها من أجل أن يملأ سيارته بالوقود وتقول:
“كان يوم الخامس عشر من آذار عام 2014هو اليوم الأسوأ في حياتي، حيث فقدت فيه رفيق دربي وسندي في هذه الحياة، صحيح أنه مضى أكثر من خمسة أعوام على هذه الحادثة، ولكنني لا أستطيع أن أمحوها من ذاكرتي فهي حاضرة في مخيلتي دوماً وكأنها حصلت اليوم، في ذلك اليوم اتصل به أحد أصدقائه وطلب منه أن يحضر له شاحنة من الرمل من أجل البناء، فخرج مسرعاً حيث كان عمله هذا مصدر معيشتنا، ولكنه أراد أن يملأ الشاحنة بالوقود أولاً، وعندما وقف بجانب المحطة ينتظر دوره قامت طائرة غادرة لنظام الأسد بقصف ذلك المكان مما أدى لاستشهاده مع العديد من الناس الموجودين هناك “.
وتضيف: “بعد استشهاد زوجي تاركاً في عنقي أربعة أطفال، أصبح عليّ أن أكون الأب والأم لأولادي، لذلك قمت بشراء ماكينة خياطة يدوية من أجل العمل عليها، فأطفالي ما زالوا صغاراً ويحتاجون رعاية كبيرة، وقد تمكنت من مردود الخياطة من تأمين حاجياتهم الضرورية”.
وتفضل رولا (35 عاماً) خياطة فساتينها عند أم منير بسبب إتقانها للخياطة، وتقول: “أنا أخيط ملابسي وملابس بناتي هنا عند أم منير فهي تتقن الخياطة بشكل ممتاز، بالإضافة لذلك هي امرأة متسامحة وتأخذ مبلغاً بسيطاً (أقل من دولارين) مقابل خياطة الثوب، فأسعار الملابس الجاهزة مرتفع جداً وأنا لا يمكنني شراؤها”.
وعن الصعوبات التي تواجهها في الخياطة على الماكينة اليدوية تقول: “عندما كنا في مدينتنا كنت أخيط الملابس على ماكينتي، حيث كانت تعمل على الكهرباء المستقاة من الطاقة الشمسية، أما هنا أعمل يدوياً بسبب عدم توفر معدات توليد الكهرباء، والتي بقيت في بلدتي بابيص، فتستغرق الخياطة وقتاً أطول وتتطلب جهداً مضاعفاً”.
وتتحدث أم منير عن التحديات قائلة: “في بداية سكني هنا في المخيم لم أكن معروفة، لذلك لم يكن لدي إلا عدداً قليلاً من الزبونات، فقمت بشراء بعض الأقمشة وخطت فساتين نسائية وفساتين للفتيات الصغيرات، ورحت أعرض عملي على الجارات، وأعجبن بعملي فأصبح لدي العديد من الزبونات والحمد لله، كما طلبن مني أن أعلم بناتهن الخياطة بسبب إعجابهن بعملي، مقابل أجر من المال، فراقت لي الفكرة من أجل تحسين معيشتنا، وفي كل يوم كانت الفتيات تأتين لساعتين من أجل أن يتدربن على الخياطة، وانتشر الخبر في المخيمات المجاورة فكثر عدد المتدربات وتحسنت أحوالنا المادية بفضل الله”.
وتحرص ميساء (27 عاماً) على خياطة فساتينها عند أم منير لأنها تجد لديها القماش الذي تريده، وتحدثنا عن ذلك قائلة: “أنا لا أخيط فساتيني إلا عند أم منير، لأنني أجد القماش الذي أريده عندها فلا أضطر للذهاب إلى السوق لشرائه، وأيضاً تساعدني في اختيار الموديل الذي يناسبني، فهي امرأة ذات ذوق رائع”.
تبسمت أم منير لكلام ميساء، وقالت: “أهلاً ومرحباً بك في أي وقت، والله يقدرني على مساعدة الجميع”.
صوت شاب ينادي: “أمي”، فأجابت أم منير: “أدخل يا منير” وقالت: “إنه ولدي البكر منير عمره (15عاماً)”، ابتسم منير لكلام والدته وقال: “أمي امرأة عظيمة ضحت بزهرة شبابها من أجلنا، أتمنى أن أتمكن من تعويضها عن كل الألم والقهر الذي مرت به طيلة هذه السنوات”.
كانت أم منير تستمع لكلام ولدها وفجأة بدا على ملامح وجهها الحزن، ثم قالت:” كلامك هذا يا ولدي بمثابة تعويض لي عن تعب كل تلك السنين”.
وتابعت أم منير كلامها عائدة بذاكرتها إلى الماضي، تقول: “صحيح أنني حزنت لخسارة منزلي في تلك الغارة الغادرة، لكن كان أشد ما أحزنني وأحرق قلبي هو إصابة ولدي منير في يده حيث فقد القدرة على حركتها، لا حول ولا قوة إلّا بالله”.
“يجب على المرأة أن تتحدى جميع الصعوبات في طريقها وأن تكون سنداً لأولادها، وخصوصاً المرأة التي فقدت زوجها وأصبح عليها أن تكون بمثابة الأم والأب لهم، فيجب أن تكون قوية وصبورة”، اختتمت أم منير حديثها.
تتمنى أم منير أن يعود الأمن والأمان لبلدها سوريا بشكل عام ولبلدتها “بابيص” لتتمكن من العودة إليها وإعادة بناء منزلها من جديد.