أنور الضاهر.. حين يكون المسعف هو الضحيَّة
على سفوح سهل الغاب في ريف إدلب الجنوبي تربعت بلدة “كفرعويد” بتضاريسها الجبلية وثمارها الموسمية وطبيعتها الجميلة، في أحد البيوت بين أزقة أحيائها ولد الشهيد أنور الضاهر المعروف بين رفاقه بـ”أبو قيس”.
شهر كانون الثاني مطلع العام 1985 شهد ولادة طفل صغير مُخبَّأ القدر، ذو تأثير على كل من سيعرفه في قادم السنوات.
كَبُر أنور بين أشجار التين والزيتون في أراضي قريته كفرعويد، تدرَّج في الدراسة فيها بين الابتدائية والإعدادية والثانوية، لينتقل بعدها للعاصمة دمشق ويكمل مشواره الدراسي فيها عام 2003 باختصاص العلوم السياسية، لم يستكمل دراسته وانقطع عنها في عامه الثالث لظروف خاصَّة أجبرته على ذلك، كان خلال السنوات الثلاث قد جمع بين الدراسة والعمل، تفوَّق في الأولى وتميَّز في الثانية وبات خلال وقت قصير من أصحاب المشاريع الخاصَّة، حيث بدأ باستثمار شقق ومبانٍ ما فتح له أُفقً جديداً في الحياة.
استقرَّ أنور في العاصمة دمشق لفترة من الزمن بحكم نشاط عمله فيها، لم ينقطع خلال تلك الفترة من زيارة بلدته الصغيرة جنوب إدلب والتي تزوَّج فيها وأسَّس أسرةً صغيرةً لطالما حلم بها وكان بذلك أسعد الناس.
مع انطلاق الثورة السورية عام 2011 لم يتخلَّف أنور عن اللحاق بها بل لم يتأخر أبداً وكان من أوائل الملتحقين في صفوفها مردِّداً صيحات الحرِّيَّة في سماء العاصمة دمشق ليتردَّد صداها ويسبقه إلى بلدته كفرعويد التي فضَّل أن يكون فيها بين أهله وأقربائه.
تحدَّث لي أنور قبل استشهاده عن أقسى أيام حياته، وهو يوم مجزرة بلدته كفرعويد في العشرين من كانون الأول العام 2011، حيث فقد أنور أقرباء وأصدقاء كثر بعد استهداف قوات النظام لأحدى المناطق القريبة من البلدة والتي جمعت عددً كبيراً من الثائرين على حكم نظام الأسد والرافضين لحكمه.
بعد مضي سنوات من انطلاق الثورة السورية اختار أنور العمل في المجال الإنساني من باب المنظمات الإنسانية بعد أن عاين معاناة الناس نتيجة تصعيد نظام الأسد من قصفه على المناطق المأهولة بالسكان فضلاً عن عمليات التهجير القسري لأبناء المحافظات السورية، انتقل بين عدّة منظمات كان آخرها منظمة شفق.
“منهل عبود” صديق أنور وزميل عمله تحدَّث عن أكثر ما يميِّزه عن غيره: “أنور شاب من النادر أن تجد مثله فهو الصديق الوفي، هو الزميل المنضبط، هو الموظف المثالي، هو السند عند الضرورة هو الناصح وقت الحاجة”.
“لطالما كان أنور ملهماً لمن حوله، يكفي أن تنظر إليه وتجده مبتسماً حتَّى تبتسم تلقائياً وتدخل الراحة إلى صدرك وتزاح الهموم” ذلك ما وصفه به صديقه “إبراهيم معراتي”.
إبراهيم أضاف: “يمكن اعتبار أنور الصديق المقرَّب لجميع من عرفه، هو بئر أسرارنا وأخانا الأكبر الذي نلجأ إليه عند كل طارئ أو حدث، يكفي أن تبوح له بما يختلج في صدرك وتنتظر كلام يكون بلسماً يهدئ النَّفس ويدبُّ السكينة”.
الثاني عشر من حزيران العام 2021 سقطت عدَّة قذائف بين الأحياء السكنية في مدينة عفرين شمال حلب، مصدرها قوات سوريا الديمقراطية المتمركزة بالقرب من المدينة، استشهد وأصيب مدنيون على إثرها، سارع أنور وصديقيه إلى نقطة طبيَّة قريبة استقبلت بعض المصابين، علَّه يكون سبباً في نجاة أناس قُدِّر لهم أن يكملوا بعضاً من حياتهم المتبقية، ما إن وصل أنور وصديقيه حتى انهالت صواريخ جديدة استهدفت النقطة الطبية المتواجدين فيها وكانت سبباً في نهاية حكايته مع الدنيا، رفقة صديقه وأكثر من عشرين شهيداً تختلف حكايتهم من شخص لآخر.
“عبد الله العمر” صديق أنور الضاهر: “عندما سمعنا أن هناك مصابين توجهنا إلى المشفى لنتفاجئ بوجود أمي من بين المُسعفين إليها، ما إن وصلنا حتى سقطت صواريخ متفجرة بينا، أستشهد على إثرها صديقي أنور الضاهر وماجد كبيش وأُصبت أنا وأمي بجروح متوسطة”.
“اسشتهد أنور وماجد أمام عيني ولم أستطيع أن أفعل لهم شيئاً، شعور العجز هو أكثر ما آلمني خاصَّة أنَّنا كنا نلتقي أكثر ما نجتمع مع عائلاتنا، كم افتقدهم، صورهم لا تفارق مخيلتي أراهم في جميع تفاصيل حياتي، رحم الله صديقي أنور وماجد”.
لطالما حمل أنور هموم أثقلته بين مسؤوليات وواجبات وأحزان، وأكثر ما كان يؤلمه في حياته هو مرض زوجته التي كانت شريكة حياته بحلوها ومرِّها، وأم أطفاله الخمسة (نور الشام، إيمان، قيس، مريم، وأحمد ذو العامين).
لم يكن أنور شخصاً عاديَّاً بإجماع كل من عرفه من أصدقاء وأقرباء وزملاء عمل، ما زال الأصدقاء يرددون أشعاراً أبدع أنور في خطِّها، واحتفظ بها لنفسه فهي متنفَّسه الوحيد في خلواته:
ويقرأُ النَّاس أحرفنا فتعجبهم ويحسبون بأنَّ الحُزن إبداع.
سيشهدُ الحرفُ أنَّ الحبر أدمُعنا لو يعلمون وأنَّ السطر أوجاع.
البوح فيضٌ من الألام لو حُبست تهشَّمت من أزيز الصَّدر أضلاع.
محمد السطيف