مهنة بسيطة تبني أسرة كريمة
فسحة صغيرة على سطحها غرفة وأمامها دالية عنب وعدد من الشجيرات الصيفية والشتوية تحيط بها، أرضها تملؤها الحجارة وكرسي خشبي تجلس عليه امرأة يبدو عليها الحزم والقوة والصمود في قرية صغيرة تسمى “البلاط” تتبع لمدينة عزمارين بريف إدلب الغربي.
اسمي عيوش وينادونني أم بسام، وعمري خمسين عاماً، هكذا عرفت المرأة عن نفسها.
بدأت أم بسام الحديث: “أجلس هنا على هذا الكرسي وأقوم بنسج القبعات وأمضي معظم وقتي وأنا أعمل بها، فظهري وقدماي لا يساعدانني على الخروج والعمل مثل أيام الشباب”.
يحتاج نسج القبعات وأغطية الطاولات تركيزاً عالياً في وضعية جلوس خاصة، وفي أغلب الأحيان يصاب من يعمل بهذه المهنة بمرض في عظام الظهر، إذا ما تدارك الأمر.
تقول أم بسام: ” أصحو كل صباح قبل بزوغ الشمس أصلّي وأجلس على الكرسي الخشبي الذي لطالما قمت بإصلاحه بسبب قدمه، فقد اعتدت الجلوس عليه وإسناد ظهري إلى أعمدة دالية العنب”، أكلمت وهي تحدق بتلك القبعة التي تقوم بنسجها بالمخرز حيث تلف الخيط على إصبعها كل عدة دقائق وتستمر بالعمل حتى تنهي القبعة وتضعها في كيس قماشي صنعته بنفسها تعلقه بطرف الكرسي لتبدأ واحدة أخرى.
كم ثمن القطعة؟ تسألها زبونة كانت قد دخلت للتو، مئة ليرة سورية بالجملة أما لك بالمجان كونك تريدين قطعة واحد ومن أجل ضيفتي. وقالت “الحمد لله ساترها الله” أعمل أنا وابنتي في نسجها فهي لا تحتاج سوى المخرز والخيوط الحريرية.
اشتهرت قرية البلاط بهذه الحرفة حيث تعمل كثير من نسائها بالنسج، كلٌ ضمن اختصاص، نساء بالقبعات وأخرى بأغطية الفرش وغيره، وتقوم عائلة من القرية تدعى “مغار غوري” بتأمين الخيوط وتسويق المنتجات.
هل تنتجون عدداً جيداً يومياً؟ نعم أجابت أم بسام “يومياً ننهي ست قبعات أو أكثر وكل ١٥ يوماً نقوم بجمعها وتسليمها وقبض ثمنها فقد اضطررت لحمل المسؤولية وأن أكون الأب والأم لأولادي، بسبب وفاة زوجي الذي تزوجته بعمر مبكر بعد مرضه، وكنت قد رزقت بثلاث بنات، فكان عليّ العمل حتى أستطيع تربيتهم وتأمين متطلباتهم”.
لم تقف طموحات أم بسام عند النسج ولكن تعدُّ نفسها من النساء الكادحات حيث تخرج كل صباح للعمل في بستان الرمان الذي خلفه لهم زوجها وتقول: “لكيلا نحتاج أحد، فهذه الأيام لم يعد يكترث الكثيرون لمثل وضعي”.
بدأت الدموع تفيض من عيني أم بسام وتمسحها خلسة دون أن تشعر أحد شارحة بداية عملها بالنسج: “بعد وفاة زوجي توجب عليّ البحث عن عمل أستطيع جني المال منه ولو قليل أهون عندي من سؤال الناس، فتعلمت نسج القبعات من جارة لي، وبدأنا العمل، وعلمت بعض الفتيات النازحات إلى المنطقة بطلب منهن، واعتمدت على نفسي وبعد فترة تمكنا من شراء ماعزين بالإضافة إلى ما نجنيه من البستان، وثمن الحطب الذي يجمعه ولدي البالغ ١٦ عاماً”
كان ضوء الشمس حادًا فقد أخذنا الحديث ولم نحس بحرارتها، نهضت أم بسام وهي تميل يميناً ويساراً حتى استطاعت الثبات وحملت كيسها القماشي بيدها وكرسيها الخشبي بيدها الثانية ومشت نحو العمود المقابل، حيث لم تصل أشعة الشمس بعد وقالت “اجلبي كرسيك يا ابنتي فالشمس قوية”.
خرجت ابنتها أمل الشابة (17 عاماً)، بصينية فيها ثلاثة فناجين من القهوة ملأت رائحتها المكان، قالت أم بسام محدثة ابنتها “الآن بدأ الصباح برؤية ابنتي وفنجان قهوتي الذي من صنع يديها”.
جلبت أمل كرسيا وجلست بجوار أمها وبدأت مشاركةً بالحديث: “أمي امرأة عظيمة فهي عملت بشجاعة لتقوم بتربيتنا ولم تتخلى عنا رغم القصف المستمر وقلة الأمن والأمان كانت تخرج وتعمل بجد دون ملل أو خوف هي أمي وأبي فإصرارها على المضي لتربيتنا جعلني فخورة بها كونها أمي أنا دون غيري”.
حينها دخلت الجارة وهي تحمل طفلة رضيعة على ذراعيها، حملت أم بسام الطفلة وبدأت بمداعبتها وتقبيلها، قالت الجارة أم أحمد والتي تبدو في الثلاثين من عمرها “أم بسام امرأة قلبها يفيض بالحنان فأنا أترك طفلتي عندها يومياً وأخرج للعمل فتعتني بها إلى حين عودتي على الرغم من انشغالها، فهي مثل أمي والصدر الدافئ لي ولأولادي”.
تبسمت أم بسام وظهر على وجهها علامات الغبطة والفرح لكلام جارتها عنها، وقالت “أنت في مقام ابنتي”.
في ريف ادلب توجد مئات الحالات المشابهة لأم بسام تكدح وتزاحم في سوق العمل لإثبات المرأة في المجتمع ولتربية أطفالٍ كانوا قد تيتموا بسبب الحرب.