إلين تتحدى الظروف لتكمل تعليمها.. وتعمل لتساعد نفسها وعائلتها
في شقة في الطابق الرابع مؤلفة من غرفتين صغيرتين ومنتفعاتهما، تعيش إلين التي اتخذت من الغرفة المقابلة لباب الشقة الخارجي، مكاناً تنزوي فيه للدراسة، وتنتشر من حولها كتب ومحاضرات ودفاتر وأقلام، حيث يبدو على وجه تلك الشابة علامات التحدي والمثابرة، فهي طالبة طب في السنة الثالثة.
إلين ( اسم مستعار) ٢٢ عاماً، نزحت من بلدة حاس بريف إدلب الجنوبي إلى مدينة كفرتخاريم في الشمال السوري، منذ سنة وثلاثة أشهر عقب الهجمة الشرسة التي تعرضت لها مناطق سيطرت الفصائل الثورية في جنوب إدلب، والتي دفعت مئات آلاف المدنيين للنزوح لمناطق أكثر أمناً باتجاه الحدود التركية.
تقول إلين: “بدأت الثورة وأنا في الصف السابع، حينها حمل المتظاهرون أغصان الزيتون بأيديهم ورفعوا شعارات مناهضة للنظام، ونادوا بإسقاطه، فما كان من هذا النظام بجبروته إلّا أن واجههم بالرصاص الحي، لكن لم يقف ذلك عائقاً في وجه دراستي، فقد كنت محبة للدراسة بشكل كبير وأهدف للوصول إلى ما أطمح إليه، وتحقيق حلمي بأن أصبح طبيبة، وثابرت على ذلك رغم تأزم الوضع في المنطقة من قصف بشتى أنواع الأسلحة حتى وصلت للصف الثالث الثانوي”.
وتابعت إلين حديثها: “ومع بداية الفصل الدراسي الأول تدهور الوضع جداً، فاضطررت لترك المنطقة والخروج مع شقيقتي إلى تركية بطريقة التهريب، عانينا كثيراً حتى استطعنا العبور خوفاً من رصاص الجندرمة التركية، واستطعت تقديم البكلوريا في تركيا، كنت أجد صعوبة لبعد عائلتي عني والتغيير الكبير الذي طرأ فالمكان والمدرسة تختلف عن مدرستي، واللغة تختلف عن لغتي بالإضافة للأصدقاء لكن لم أدع هذه العقبات تقف أمام تحقيق حلمي، لذلك وضعت هدفا لنفسي بنيل الشهادة كي أعود إلى وطني الأم سوريا وأقوم بالتسجيل في الفرع الذي أطمح له وهو الطب”.
رغم استمرار الحرب الدائرة في سورية عادت إلين تحمل شهادة بمعدل ٩٧% والذي يؤهلها لدخول الفرع الذي حلمت به وسجلت بجامعة حلب كلية الطب، وبسبب حدوث بعض المشاكل اضطرت لنقل أوراقها لجامعة إدلب في السنة الثالثة لدراستها، حدثتنا: “كان الوضع يزداد سوءاً مع مرور الأيام حتى بدأت الحملة الأخيرة لنظام الأسد، والتي جعلتني أنزح أنا وعائلتي كمئات الآلاف من المهجرين السوريين نحو الشمال السوري خوفاً من بطش نظام الأسد والذي كان له تأثير كبير على دراستي”.
أطرقت إلين برأسها وبدت حزينة، ثم أكملت: “مررنا بظروف صعبة فالمستوى المعيشي لعائلتي دون المتوسط ومع النزوح ساء جداً، فقررت ترك دراستي لأنني لم أعد أستطيع الدراسة مع الضغط الكبير الذي أواجهه، لكن أمي كانت من الرافضين لقراري هذا، وهي التي كانت تشجعني باستمرار وتقوي من عزيمتي على تحقيق حلمي، لذلك وبدافع قوي منها عدت للدراسة وبتصميم أقوى لأكمل ما بدأت به مع التفكير والبحث عن عمل يساعدني، ووجدت عمل ضمن فريق طبي، وقمت بالتوفيق بين الدراسة والعمل”.
كانت والدة إلين، وتدعى أم خالد (45) تستمع لحديثنا، وأحبت أن تشاركنا الحديث، قائلة: “الحمد لله رب العالمين، الله بعتلي إلين ذكية ومثابرة بتحب دراستها، لكن فاجأتني في إحدى المرات، بأنها تريد إيقاف دراستها، حاولت توعيتها وإرشادها للطريق الصحيح والحمد لله عادت وأكملت، فالله هو الكفيل، فقد أعانني على تربيتهم أيتام الأب منذ صغرهم، كنت الأب والأم لسبعة أولاد خمس بنات وصبيان، واستطعت تعليمهم وتزويج قسم منهم، وبإذن الله سأقف بجانبهم حتى يستطيعوا الثبات والعيش ومواجهة الحياة”.
كانت إلين تنظر لوالدتها والابتسامة ملأت وجهها، وردت قائلة: “شكراً لك يا أمي لولا وقوفك بجانبي أنا وإخوتي بعد وفاة والدي، لما تمكنا من خوض مصاعب الحياة بمفردنا، أعاننا الله على تعويضك عن كل الألم والقهر الذي مررت به”.
وتابعت إلين “خطوة بخطوة بدأت أطور نفسي وأبحث عن دورات تدريبية، تساعدني في ممارسة العمل الذي يتناسب مع وضعي الدراسي والحياتي، فعملت مع فريق تطوعي لعدة أشهر، بالإضافة لمساعدة أي إنسان بحاجة لخدمة إنسانية دون مقابل، مثل تأمين دواء وإسعافات قدر الإمكان”.
كما شكت إلين من الأوضاع الأخيرة وهو انتشار وباء كورونا والذي شكل أزمة للمجتمع البشري، قائلة: “مررنا بأوقات عصيبة بسبب انتشار المرض، لكن لم أستسلم لهذا ولم يشكل حاجز لأكمل عملي ودراستي، بل بقيت مستمرة وبعد الامتحانات دخلتُ لجنة حماية الطفل، وأنا قائدة فريق توعية صحة مجتمعية فيه، لخدمة كل حالة إنسانية بحاجة للمساعدة من جلسات توعية صحية، وخاصة ضمن موجة كورونا، وكانت بداية عملي بالفريق هو إيصال المعلومة وإيصال مدى الخطر الممكن من هذا الفيروس للناس، ولحد الآن أنا مستمرة بهذا العمل بالإضافة للعمل بفريق الياسمين التطوعي”.
في ظل هذه الظروف الصعبة أصبح من يتمكن من الدراسة يعتبر بطلاً حقيقياً فهو يتحدى المخاطر جميعها في سبيل دراسته، ووجهت إلين كلمة لجميع الفتيات قائلة:”على كل فتاة تواجه ضغوطات وظروف قاسية الصمود ومواجهتها، فالوقت العصيب يمر، أما إذا خسرت دراستها فهي خسرت حلمها ولم يعد لديها شغف بالحياة، وكل فتاة عليها مواجهة جميع المشكلات التي تواجهها باللجوء لأسرتها أو لأي أحد قريب لها دون اتخاذ أي قرار بمفردها يدمر مستقبلها، نحن يجب أن ندرس ونحقق هدف طفولي كنا نرسمه لمسيرتنا الحياتية، ويجب على أي طالبة أن تكون واثقة ومقتنعة بالمسير وتحقيق حلم رسمته لنفسها”.
شاركنا الحديث خالد (25 عاماً)، قائلاً: “أختي إلين أخت رائعة، وأنا أحبها كثيراً، فهي استطاعت تحدي الظروف والضغوطات القاسية التي مررنا بها والثبات على تحقيق حلمها، وأنا فخور بها وبما وصلت له، وأنا أنتظر ذلك اليوم الذي سوف تتخرج فيه إلين، وتصبح طبيبة بفارغ الصبر”.
رغم ظروفها القاسية ورغم كل ما مرت به تمكنت تلك الشابة إلين من دخول الجامعة ولم تستسلم لواقعها.
تتمنى إلين عودة الأمن والأمان إلى بلدها سوريا بشكل عام وإلى مدينتها حاس بشكل خاص، لتتمكن من العودة إلى هناك فهي تحب مدينتها كثيراً، وتتمنى عودة المدارس حتى لا يغرق هذا الجيل بالأمية.
إعداد: كادر موقع “فرش أونلاين”