بالصبر والتحدي.. استطاعت منى إعالة أطفالها في غياب زوجها
في منزل صغير مؤلف من غرفتين صغيرتين، يغطي نوافذ وأبواب هذه الغرف ستائر قماشية، عدا باباً واحداً وهو الباب الرئيسي للمنزل، فقد كان مصنوعاً من معدن الحديد القديم، تجلس في إحدى تلك الغرف شابة وتجلس معها بعض النسوة، كُنّ يتبادلن أطراف الحديث ويحتسين القهوة، “أهلاً ومرحباً بك تفضلي بالدخول، وشاركينا قهوتنا”، هكذا كان استقبال الشابة لي.
منى الأحمد (32 عاماً) وتكنى بأم عبدو، نازحة من مدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي، نزحت في شهر أيار لعام 2019، بسبب القصف الكثيف الذي تنفذه قوات الأسد والعدوان الروسي على مدن وقرى ريف إدلب الجنوبي، وتقطن حالياً في مخيم العبد الله قريباً من بلدة قاح بريف إدلب الشمالي الخاضع لسيطرة الفصائل الثورية، ويحتوي المخيم على أكثر من 400 عائلة نازحة.
منى أم لطفلين، أمل (9 أعوام) وعبدو (4 أعوام)، كانت عائلة أم عبدو تعيش حياة مستقرة نسبياً وأحوالهم المادية جيدة، وبسبب النزوح ساءت أوضاعهم كما جميع العائلات التي هُجرت عن مدنها وقراها، وتقول: “بداية نزوحنا كانت إلى بلدة أطمة بريف إدلب الشمالي، حيث سكنّا مع أهل زوجي في منزل على العظم مدة سبعة أشهر، المنزل يفتقر لأدنى مقومات العيش، ولكن اضطررنا للسكن فيه لقلة توفر المنازل، بسبب شدة موجة النزوح آنذاك”.
وتضيف: “وبعد سبعة أشهر من مكوثنا فيه، علمنا من أحد الأقارب بوجود مخيم العبد الله بالقرب من بلدة قاح، وقد كنت أمتلك بعض القطع الذهبية (مصاغ ذهبي)، فاقترحت على زوجي أن يبيع ما بحوزتي من مصاغ ذهبي ويشتري لنا منزلاً في المخيم، وبالفعل وافق على اقتراحي واشترى لنا بثمنها هذا المنزل الصغير، صحيح أنه صغير وغير مجهز فنحن لم نستطع تجهيزه لنفاد النقود التي كانت معنا، ولكنه بالنسبة لي بمثابة قصر جميل”.
بعد أن كان لأم عبدو منزلها الواسع الجميل في مدينتها كفرنبل، أصبحت تقطن في هذا المنزل الصغير الذي لا تتعدى مساحته الخمسين متراً مربعاً، وقد كان زوجها يمتلك محلاً لبيع الألبسة الأوروبية (البالة)، ولكنه أصبح الآن لا يجد إلا العمل الشاق ليقوم به.
وشرحت أم عبدو عن عمل زوجها قبل النزوح، وهنا في بلد النزوح، قائلة: “عندما كنا في مدينتنا كفرنبل كان زوجي يمتلك محلاً لبيع الألبسة الأوروبية (البالة)، وكنا نعيش من مردود هذا المحل وكانت أحوالنا المادية جيدة، ولكن بعد وصولنا إلى هنا، لم يجد زوجي عملاً إلّا العمل الشاق كالعمل بالبناء أونقل الحجارة وهذا العمل يتطلب جهداً وتعباً كبيرين، ولكنه مضطر للعمل من أجل تأمين احتياجات العائلة، ولكن…”.
هنا بدا على ملامح وجه أم عبدو الحزن وأطرقت برأسها أرضاً، وخيّم السكون على المكان، ثم أكملت حديثها: “لكن زوجي أصبح يعاني من الألم والمرض بشكل مستمر، وكان يقضي معظم وقته طريح الفراش، وبعد ذهابه إلى الأطباء تبين أنه يعاني من وجود حصى في الكليتين، وبذلك أصبح لا يقوى على القيام بالعمل الشاق مما جعله عاطلاً عن العمل”.
حاولت أم عبدو إخفاء دموعها، ولكن دون جدوى فقد خنقت عبرات البكاء صوتها، وتقول: “وبعد تنقل زوجي من طبيب إلى آخر تبين أنه بحاجة لإجراء عملية بأسرع وقت، فنصحه الأقارب والأطباء بالخروج إلى تركيا لاستخراج الحصى من كليتيه، فالطب في تركيا متقدم أكثر من هنا، وبإمكانهم استخراج الحصى دون عمل جراحي، وبالفعل تمكن زوجي من الخروج إلى هناك ودخل المشافي التركية وتمكن الأطباء من استخراج الحصى من كليتيه، ولكنهم أبقوه تحت المراقبة وأجروا له الكثير من التحاليل لمعرفة أي نوع من الأطعمة تسبب له بالحصى من أجل أن يمتنع عن تناولها”.
بقيت منى وأطفالها بعد سفر زوجها دون معيل، مما اضطرها للبحث عن عمل تتمكن من خلاله تأمين مستلزمات المنزل وحاجيات الأطفال، وتقول: “بعد سفر زوجي أصبح عليّ أن أكون المعيل لأولادي، وبحكم أنني أمتلك شهادة معهد فنون جميلة (رسم)، تقدمت بأوراقي إلى المجمع التربوي هنا، وقد تم تعييني بإحدى المدارس، وتدعى مدرسة (تاج غزال)، كمنشطة للأطفال، كانت فرحتي لا توصف بحصولي على الوظيفة، لأنه أصبح بمقدوري تأمين احتياجات المنزل، صحيح أن المدرسة التي تم تعييني بها بعيدة بعض الشيء عن منزلي، وتتطلب الكثير من الجهد، فأنا أسير على قدميّ مدة نصف ساعة لأصل إليها، ولكن كل شيء يهون في سبيل عائلتي”.
تابعت أم عبدو: “المدرسة كانت بمثابة مركز لنا ننطلق منها إلى المدارس الأخرى من أجل تقديم الأنشطة للأطفال والترفيه عنهم، كانت سعادتي كبيرة بعملي هذا وخصوصاً عندما أرى الفرحة على وجوه الأطفال”.
هنا شاركتنا الحديث والدة منى، والتي يبدو أنها في الستين من عمرها، قائلة: “أنا افتخر بابنتي كثيراً، فقد فعلت المستحيل من أجل ألّا تدع أطفالها بحاجة أحد، ابنتي مثال المرأة الصبورة والشجاعة”.
كانت منى تستمع لكلام والدتها بكل فخر واعتزاز وردت: “بل أنا من أفتخر بكما أنت وأبي فأنتما من علمني الصبر على مصاعب الحياة ووقفتما بجانبي”.
صحيح أن منى كانت تعاني كثيراً عند ذهابها إلى المدرسة وخاصة في فصل الشتاء بسبب سوء الطرقات، ولكنها صممت على الصبر والمثابرة كي لا تحتاج أحداً من الناس، وتحدثت عن الصعوبات التي تواجهها: “فصل الشتاء هذا العام كان بارداً جداً، ولكن ليس البرد وحده الذي كان يتعبني، فبعد المسافة إلى المدرسة كان متعباً أيضاً، بسبب سوء الطرقات فقد كانت طينية وزلقة جداً، ولكن قررت تحدي جميع الصعوبات في طريقي والصبر والمثابرة في سبيل سعادة أولادي”.
أحبّت والدة زوجها التي كانت تجلس معنا أن تُعبر عن شكرها وامتنانها لزوجة ولدها قائلة: “أنا ممتنة لك كثيراً يا منى، بفضل صبرك ونضالك لم يشعر الأطفال بغياب والدهم لقد كنت الأب والأم لهم شكرا لك، فأنت نعم الأم”.
تبسمت منى لكلام والدة زوجها وقالت: “بل شكراً لك، فأنت بركة هذا المنزل فلولا وجودك بجانبنا أنا والأولاد لما تحملنا فراق والدهم”.
كانت ابنتها أمل تجلس جانباً وأمامها دفتر رسم وبيدها قلم ترسم به، وبعد برهة نهضت وأسرعت إلى والدتها حاملة الدفتر بيدها، وقالت بكل براءة: “ماما ليكي رسمت عيلتنا ماما شوفي، بابا اشقد مبسوط معنا، أنا بحبكن، وأنا عم أدعي دايماً يطيب بابا ويرجعلنا بالسلامة، الله يشفيك يا بابا، أنا اشتقتلك كتير ارجعلنا بسرعة”.
احتضنت منى ابنتها وتساقطت الدموع من عينيها، وقالت: “ونحن نحبك كثيراً أنت وأخاك، وإن شاء الله عندما يشفى والدك سوف يعود إلينا ولن يغادرنا أبداً”.
“على المرأة أن تكون سنداً لعائلتها، وأن تتحدى جميع الصعوبات في طريقها، وألّا تستسلم أبداً مهما مرت بها ظروف قاسية”، اختتمت منى حديثها.
تتمنى منى عودة زوجها بصحة وعافية، كي يحمل معها أعباء المنزل، كما تتمنى أن يعود الأمن والأمان لوطنها الحبيب سوريا، ولمدينتها الغالية كفرنبل لكي تتمكن من العودة إلى منزلها الذي خرجت منه رغماً عنها.
إعداد: كادر موقع “فرش أونلاين”