أم محمد تعمل ببيع مواد السمانة والملابس في منزلها لإعالة أولادها
في أرض سهليّة واسعة تحتوي على مئات المنازل، وفي منزل صغير جدرانه مبنية من اللبِن (قالبٌ مربَّع أو مستطيل مضروب من الاسمنت والرمل يُستعمل في البناء) ومسقوفة بغطاء بلاستيكي بلون أزرق مع عوازل، هذا المنزل مؤلف من غرفتين في إحداها وعلى أحد جدرانها رفوف مصفوفة بعناية وضع عليها مواد سمانة متنوعة مابين سكر وشاي وسمنة وغيرها، وعلى رفوف الجدار المقابل وضعت بضائع متنوعة ما بين ألبسة نسائية وولادية ومواد تجميل (ماكياج)، تجلس بين كل هذه الأشياء امرأة على كرسي خلف طاولة صغيرة، يبدو على وجهها ملامح الهدوء والسكينة.
صفاء المصطفى وتكنى بأم محمد (45 عاماً)، نازحة من مدينة كفرنبل بريف ادلب الجنوبي، نزحت في منتصف شهر أيار 2019، وتقطن حالياً في مخيم السلام بالقرب من بلدة قاح بريف ادلب الشمالي، ويقطن المخيم مئات العائلات التي هجرت من مدن وقرى ريف ادلب الجنوبي، بسبب محاولات تقدم لقوات الأسد على مناطق سيطرة الفصائل الثورية.
صفاء أم لثلاثة أولاد، كانت تعيش حياة مستقرة مع أولادها، وأحوالهم المادية متوسطة، وبسبب النزوح ساءت أوضاعهم، ولم تجد عملاً سوى بيع مواد السمانة، بالإضافة لبيع الألبسة والمواد التجميلية، كما كانت تعمل في السابق في مدينتها كفرنبل، تقول أم محمد:
“بعد انتقالنا من مكان إلى آخر في مناطق الشمال السوري، حيث ذقنا مرارة التهجير وقسوته، قررت الاستقرار مع أولادي في هذا المنزل الصغير، صحيح أن سقفه من النايلون والعوازل ولكنه يبقى أقل قسوة من التنقل من مكان إلى آخر، وبعد استقراري بفترة وجيزة كان عليّ أن أعود لعملي السابق حيث كنت في مدينتي، فالمنزل يحتاج للكثير من المستلزمات، قمت بشراء بعض البضاعة من مواد السمانة وغيرها مما يحتاجه كل منزل، كالسكر والشاي والقهوة وغيرها، بالإضافة إلى الملابس النسائية وبعض مواد التجميل، وقمت بتجهيز غرفة في المنزل لجعلها محلاً تجارياً، ووضعت الرفوف على جدارنها ووضعت البضاعة على تلك الرفوف”.
عادت أم محمد بذاكرتها لذلك اليوم الذي سافر فيه زوجها تاركاً في عنقها مسؤولية الأولاد قائلة: “بحث زوجي عن عمل هنا ولكن دون جدوى لم يتمكن من إيجاد عمل يستطيع من خلاله تأمين حاجيات العائلة الكثيرة وبعد تفكير طويل وأخذ ورد بيني وبينه قرر السفر على الرغم من رفضي له، وبعد سنتين من اغترابه وكان خلالهما يتصل بنا باستمرار ويزورنا كلما سنحت له الفرصة، انقطعت أخباره ولم نعد نعلم عنه شيئاً، حاولت معرفة أخباره بشتى الوسائل دون جدوى، فأصبح مصروف المنزل وتربية الأولاد على عاتقي”.
وأكملت أم محمد حديثها: “وبما أنني أتقن مهنة الخياطة وأحبها منذ أن كنت صغيرة قررت أن أشتري ماكينة للخياطة، وأخيط الثياب للنساء والفتيات الصغيرات، والحمد لله تمكنت من تأمين حاجيات المنزل المتعددة”.
هنا توقفت أم محمد عن الكلام وخيّم السكون على المكان وبدت علامات الخوف والرعب والحسرة ظاهرة على ملامح وجهها، عندما تذكرت ذلك اليوم الذي حرمت فيه من ممارسة المهنة التي أحبّتها وعشقتها منذ الصغر وتقول:
“في يوم من أيام رمضان من عام 2013 وعندما كنت جالسة مع أطفالي على شرفة المنزل الغربية نتناول طعام الإفطار، وإذ بقذائف نظام الأسد المجرم تنهال على حارتنا، ما أدى لإصابتي مع أطفالي بالعديد من الشظايا، وبعد خضوعنا للعلاج من أثر الشظايا، خضعت للعلاج الفيزيائي، ولأن الشظايا أكثرها كانت بيدي، كان العلاج دون جدوى فلم أعد أستطيع ممارسة مهنة الخياطة، الحمد لله على كل حال”.
وعندما وجدت أم محمد أن الأسرة بقيت بلا معيل والمال الذي بحوزتها شارف على النفاد فكرت بعمل يكون أقل جهداً من الخياطة تتمكن من خلاله تأمين حاجيات المنزل وتقول:
“اشتريت مواد السمانة بالإضافة للمنظفات وكل ما يحتاجه المنزل، وقمت بتحويل غرفة من غرف المنزل إلى محل تجاري، وكان إقبال الناس على الشراء من عندي ممتازاً وكان مردود البيع جيداً، وتحسنت حالتنا المادية ولم نعد بحاجة أحد”.
دخلت أم خالد (34عاماً) وهي زبونة أم محمد الدائمة، وبعد أن تفحصت الرفوف بعناية قالت: “أريد كيلو زعتر وكيلو سمنة وكيلو سكر وعلبة حلاوة، وبعد قليل سوف أحضر البنات من أجل أن ينتقين ثياباً لهن”.
أجابت أم محمد: “أهلاً وسهلاً البضاعة على حسابكم”، بدأت أم خالد بالحديث مادحة أم محمد، ريثما تحضر لها أم محمد طلبها وتقول: “أنا أشتري كل شيء يحتاجه المنزل من عند أم محمد فبيعها رحماني، فهي تبيع البضاعة بسعر مناسب مقارنة بغيرها من المحلات، شكراً لك يا أم محمد لأنك تشعرين بالناس”.
تجيب أم محمد والبسمة على وجهها: “على الرحب والسعة، إذا لم نشعر ببعضنا ونساعد بعضنا البعض من سيساعدنا، الحمد لله الذي قدّرنا على مساعدة الآخرين”.
صوت شاب ينادي: “أمي”، فأجابت أم محمد: “أدخل”، وقالت: “إنه أمجد ولدي الثاني (17عاماً)”، ألقى التحية وجلس مصغياً إلى حديثنا، ثم داخلنا الحديث قائلاً: “أمي هي عمود المنزل بعد سفر والدي وانقطاع أخباره، ونحن لا نستطيع الاستغناء عنها أبداً ولا عن مشورتها في كل كبيرة وصغيرة، ونحن نحترم رأيها ونقدرها كثيراً”.
كانت أم محمد تستمع إلى كلام ابنها بكل فخر واعتزاز وقالت: “أنتم كل حياتي ومصدر سعادتي فأنا أشعر بسعادة كبيرة عندما أراكم سعداء”.
وعن الصعوبات التي تواجهها تقول أم محمد: “الارتفاع المستمر بسعر الدولار يسبب لي الخسارة أحياناً، حيث أشتري البضاعة بسعر لأتفاجأ بعد بيعها أن ثمنها من المصدر أصبح أغلى من الثمن الذي بعتها به”.
قطع حديثنا دخول طفل صغير بعيون بنية وشعر مسرح جميل يرتدي كنزة صفراء وبنطالاً بنياً قال: “يا خالة تقول أمي هل أحضرت بضاعة جديدة”، تجيب أم محمد: “نعم يا بني لقد أحضرت طلب والدتك”، يجيب الطفل: “شكراً يا خالة”.
وتفضل أم أحمد (38 عاماً) جارة أم محمد وزبونتها، شراء حاجياتها وحاجيات أطفالها من عند أم محمد قائلة: “أنا أشتري من عند أم محمد لأنها امرأة صبورة ومكافحة وتفعل المستحيل من أجل أولادها، وتأمين حاجياتهم”.
“يجب على المرأة أن تتحدى جميع الصعوبات في طريقها، وخصوصاً المرأة التي سافر زوجها أو توفي، وأصبح عليها أن تكون بمثابة الأم والأب لأولادها، فيجب أن تكون قويةً وصبورةً”، اختتمت أم محمد حديثها.
تأمل أم محمد أن تكون عودتها قريبة إلى مدينتها كفرنبل، وأن يعود الأمن والسلام لوطنها سوريا ولجميع البلدان، كي تتمكن من الرجوع لمنزلها الذي غادرته رغماً عنها.
إعداد: كادر موقع فرش أونلاين