بصناعة خبز الصاج الساخن… تتحدى أم أحمد جميع الظروف من أجل عائلتها
بين أحضان الطبيعة الجميلة، وفي فسحة بجانب منزلٍ صغيرٍ وضعت بعض الأحجار المصفوفة بعناية وفوقها صاجٌ من الحديد، وبجانبه تجلس امرأة حولها أرغفة ساخنة من خبز الصاج الطازج الشهي، يبدو عليها علامات التعب مع الصبر والتحدي.
في غرفة صغيرة ومنتفعاتها تقطن عائلة أم أحمد من بلدة كنصفرة، في قرية الحج يوسف جنوب مدينة عزمارين، وهي غرفة بالكاد تتسع لهم ولأمتعتهم التي استطاعوا إخراجها من بلدتهم بجبل الزاوية بريف إدلب الجنوبي، عقب القصف العنيف الذي تعرضت له القرية منذ بدء الحملة العسكرية لقوات الأسد والروس على ريف إدلب الجنوبي.
قرية الحج يوسف قرية صغيرة تقع جنوب مدينة عزمارين على الطريق المؤدي إلى مدينة إدلب ومدينة دركوش، تؤوي عدة عائلات من مهجري ريف إدلب الجنوبي، بالإضافة لسكانها الأصليين، والتي تسيطر عليها الفصائل الثورية، اختارت عائلة أم أحمد هذه القرية مستقراً لها ولأسرتها لقربها من الحدود التركية، علّها تجد الأمان لأطفالها بعيداً عن القصف الذي تتعرض له قريتهم.
جورية (اسم مستعار) والملقبة بأم أحمد وعمرها (28 عاماً)، أم لأربعة أطفال ثلاثة ذكور وفتاة استقبلتنا في غرفتها الصغيرة، ومن حولها أرغفة من خبز الصاج الساخن، والابتسامة تملأ وجهها المستدير المحمر، وترحب بنا قائلة: “أهلاً وسهلاً شرفتمونا”.
كانت عائلة أم أحمد تعيش حياة مستقرة وأحوالهم المادية جيدة في بلدتهم، وبسبب النزوح المتكرر ساءت أوضاعهم كثيراً، كباقي العائلات التي هُجرت من مدنها وقراها، فقررت البحث عن عمل تساعد به زوجها المريض، وتحدثت عن معاناتها في بلد النزوح قائلة: “جئنا إلى هذه القرية واستأجرنا هذه الغرفة القديمة، وبسعر جيد يناسب وضعنا الحالي، وبدأ زوجي بالبحث عن عمل، لكنه لم يجد عمل يتناسب مع وضعه الصحي فهو مريض قلب، ولا يقوى على العمل الشاق، وهذه المنطقة تفتقر لفرص العمل، فما كان عليّ سوى التفكير في عمل لا يحتاج إلى رأس مال وأستطيع القيام به، ولم أجد سوى صناعة الخبز على الصاج، فالخبز مطلوب بشكل يومي وأنا أتقن صنعه، فقمت بطرح الفكرة على زوجي ووافقني الرأي، وفي اليوم التالي ذهب زوجي وقام بشراء صاج وأكياس نايلون وكيس من الطحين”.
تابعت أم أحمد: “وبعد أن أصبحت أمتلك المواد التي يحتاجها الخبز، استيقظت في صباح اليوم التالي مبكرة عند شروق الشمس، وقمت بعجن كمية قليلة من الطحين وخبزها على الصاج، وبعد انتهائي وضعتها في أكياس من النايلون في كل كيس سبعة أرغفة، وأحكمت ربطها حتى تبقى ساخنة، وقام زوجي بأخذها إلى مدينة عزمارين وبيعها في ساحة السوق وسط المدينة، ولم يستغرق زوجي وقتاً طويلاً في بيعها، كنت سعيدة جداً، فقد أخبرني زوجي أن الكمية نفذت بسرعة والكثير من الناس قاموا بتوصيته على المزيد”.
شرحت أم أحمد عن عملها قائلة: “العجين لا يحتاج سوى كمية من الطحين والخميرة وقليل من الملح والماء الفاتر ووضعه في مكان دافئ، أما شواء الخبز فلدينا متسع في الخارج من الجهة الشمالية للغرفة نستطيع فعل ما نريد به، فقررت صنع مجمر للصاج، ووضعت عدة أحجار متساوية ومرتفعة وقمت بتطيينها وبتركيز الصاج فوقها، وفي الجهة المقابلة له وضعت أكياس من أعواد السنديان لإشعال النار التي كان زوجي وولدي أحمد البالغ (11عاماً) يذهبان لجلبها من الجبال المحيطة بالقرية، كي نستطيع خفض التكلفة ونيل الربح الجيد”.
وأكملت: “وبعد إشعال النار أجلس أنا وزوجي بجانب الصاج، وأقوم برق العجين أرغفة متساوية الحجم وأضعها على الصاج واحداً تلوا الآخر، وهو يقوم بتقليب الخبز وشوائه حتى ينضج، وبعد انتهائنا نضعه في أكياس كل سبع أرغفة في كيس ويقوم بأخذها وبيعها في السوق، كما أن الكثير من أهل الحي يأتون لشراء الخبز من المنزل”.
حينها دخلت طفلة صغيرة بعيون زرقاء وترتدي حجاباً أسود اللون، تدعى مها ابنة جارة أم أحمد، وتبلغ من العمر عشر سنوات، ألقت التحية قائلة “خالتو ماما بستلم عليكي وبدها ربطتين من الخبز الساخن”، أجابتها أم أحمد: “الله يسلمك تفضلي الخبز وهو سخن متل ما بدها الماما”، ردت الطفلة: “الله يعطيكي العافية يا خالتو”، وغادرت.
كانت أم أحمد سعيدة بعملها، لكنها وصفته بالعمل المجهد، وتقول: “بداية كنت أعمل ولا أشعر بتعب كوننا استطعنا تأمين كل متطلبات العائلة والمنزل، لكن مع الأيام بدأت أشعر بالإرهاق والتعب وألم في الظهر فالعمل متعب جداً، فهو يحتاج للاستيقاظ باكراً والجلوس لفترة طويلة بجانب النار الملتهبة، كنت لا أستطيع الوقوف مباشرة بعد انتهائي من صنع الخبز، فالخبز على الصاج يحتاج لجهد كبير، وعليّ التحمل حتى نعيش دون الحاجة لأحد”.
كما شكت أم أحمد ارتفاع سعر الدولار، والذي كان له أثر كبير على عملها، قائلة: “كنت بداية أشتري كيس الطحين بسعر ٢٥٠٠ ليرة سورية، وأبيع ربطة الخبز ٣٠٠ ليرة، لكن الدولار يرتفع بشكل مستمر، وكل مرة أشتري الطحين بسعر أعلى حتى وصل الآن سعر كيس طحين ١٥ كيلو ١٤٠٠٠ ألف ليرة سورية، فما كان علينا سوى تقليل عدد الأرغفة في الربطة إلى خمسة أرغفة وبسعر ١٠٠٠ ليرة حتى نحصل على ربح بسيط، كما أن الكثير من الناس يأتون للمنزل و يطلبون ربطات الخبز، وأجد عليه طلباً رغم ارتفاع سعره”.
دخل أبو أحمد الغرفة حاملاً مجموعة من الأكياس وألقى التحية وقال لزوجته: “خذي هذا الأكياس للخبز فقد اشتريتها الآن فلم يعد لدينا سوى القليل منها، وقد وجدت سعرها مناسب”، وشكر عمل زوجته: ” الله يعطيكي العافية يا أم أحمد أشكرك على تعبك معي الذي لن أنساه يوماً”.
أمّا قريبة أم أحمد خالدية (اسم مستعار) التي كانت تجلس معنا، تقول: “أم أحمد امرأة بكل معنى الكلمة فهي مجدة وصبورة، وتعمل وتتعب ولا تشكو، وتبقى مبتسمة وضاحكة، تستيقظ في كل صباح لتبدأ عملها دون ملل، فهي قوية وتستحق المديح، وأنا أحبها وأجد فيها الأخت والصديقة والقريبة لي، أعانها الله ورزقها”.
“على المرأة التي تجد نفسها قادرة على تحمل أعباء العمل، أن تقوم بمساندة زوجها وألّا تدعه يواجه مصاعب الحياة وحده، كما يجب على جميع النساء اللواتي أجبرن على ترك منازلهن مثلي، التحمل والصبر ومساندة أزواجهن حتى يستطعن تخطي هذه المحنة”، ختمت أم أحمد حديثها معنا.
وجلّ ما تتمنى أم أحمد أن تعود لبلدتها كنصفرة وأن يحل السلام، وتنتظر قدوم ذلك اليوم بفارغ الصبر.
إعداد: كادر موقع “فرش أونلاين”