أم خالد تعمل مستخدمة لتعيل أسرتها
على سفح جبل متوسط الارتفاع بنيت مجموعة من المنازل الإسمنتية الصغيرة من اللبن (قالبٌ مربَّع أو مستطيل مضروب من الإسمنت والرمل يُستعمل في البناء)، ومسقوفة بألواح من التوتة، في أرض واسعة ومسورة، ووضع بجانب هذه الأبنية الإسمنتية، عدداً من الكرفانات مسبقة الصنع، وأطلق على هذه التجمع السكاني اسم مخيم أهل الأثر، والذي ضم العديد من العوائل النازحة من مناطق مختلفة، هنا تقطن أم خالد وعائلتها في منزل من الإسمنت مؤلف من غرفة ومنتفعاتها.
أم خالد (٣٥ عاماً) أم لخمسة أولاد أربعة ذكور وأنثى واحدة من بلدة كفر سجنة بريف إدلب الجنوبي، نزحت منذ بداية الثورة نحو المناطق الحدودية، واستقرت في مخيم أهل الأثر في بلدة عقربات القريبة من معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، خوفاً من بطش قوات النظام والقصف المستمر على ريف إدلب الجنوبي والذي انتهى بسيطرة الأخير عليه.
تحدثنا أم خالد عن رحلة نزوحها، قائلة: “كنا نعيش حياة مستقرة في بلدتنا كفر سجنة، وأحوالنا المادية متوسطة، حتى سقطت إحدى قذائف النظام بالقرب من منزلنا والتي أدت لإصابة زوجي بشظايا بساقه، فساءت أحوالنا المادية جداً خلال تلك الفترة، حتى شفي زوجي تماماً وعاد للعمل، ولكن..”.
هنا كفت أم خالد عن الكلام ومسحت دموع عينيها بمنديل كان بيدها، وأكملت: “وبعد مدة قصيرة أصيب زوجي مرة ثانية ضمن عمله بآلة جرش الأعلاف في منزل أخيه والتي أدت لشلل طرفه الأيسر ذراعه وساقه بالكامل، بالإضافة إلى فقدانه حاسة النطق، ومع المعالجة الفيزيائية استطاع تحريك ساقه والوقوف عليها والسير بصعوبة حينها قررنا النزوح والخروج من القرية بعد أن اشتد القصف وساءت أحوالنا المادية كثيراً، ولم نعد نستطيع البقاء، فحزمنا أمتعتنا وكانت وجهتنا قرية أطمة الحدودية بصحبة أقارب زوجي”.
وتابعت أم خالد حديثها: “لم تكن الحياة مريحة نعيش عدة عائلات في منزل واحد، كنت أعاني في كل يوم وأدعو الله بالفرج، حتى صادفت إحدى النساء، والتي تأثرت بحالتنا كثيراً، فأرادت مساعدتنا وأخبرتني عن مخيم أهل الأثر وأعطتني عنوانه، والذي كان قد أنشئ حديثاً ببلدة عقربات للأرامل والمعوقين، وبالفعل لم أنتظر وقمت بحزم أمتعتنا واتجهنا نحو المخيم، وهناك تم منحنا هذه الغرفة واستقرينا فيها، كانت فرحتي لا توصف فقد نلت راحة البال، وهنا بدأت أفكر بإيجاد عمل يساعدني في تربية أولادي ومعالجة زوجي وتأمين الدواء له”.
لم تتردد أم خالد بعمل أي شيء في سبيل إعالة أسرتها وتأمين الدواء لزوجها العاجز، وتقول: “بدأت بالبحث عن عمل، وقررت القبول بأي عمل أتمكن من خلاله تأمين مصروف أولادي ودواء زوجي العاجز، فعملت بداية بتنظيف المنازل، ثم طلبت إليّ بعض النساء اللواتي كان لديهن وظائف بأن أعتني بأطفالهن ريثما يعدن من عملهن، بالإضافة لإعداد المؤونة وبأجر مالي لمن يريد، مثل (توريق الملوخية، وحفر الباذنجان، وتشريط الفليفلة)، إلى أن تم تعييني في خدمة المسجد، والذي يقتصر على ذهابي برفقة ولدي خالد كل أسبوع مرة واحدة يوم الخميس”.
تعمل أم خالد مستخدمة في مسجد المخيم ويساعدها ولدها البكر خالد (15عاماً) مقابل أجر شهري، لتعيل أسرتها وزوجها العاجز، وشرحت كيف تقوم بذلك، تقول: “أستيقظ صباح كل خميس وأتجه نحو مسجد المخيم برفقة ولدي خالد حيث أقوم بتنظيف المسجد ومسح الغبار، أما ولدي يقوم بتنظيف الحمامات وساحة المسجد، مقابل أجر شهري قدره (50 دولاراً)، الحمد لله رب العالمين”.
شكت أم خالد سوء الأوضاع المادية، وخاصة بعد ارتفاع الدولار قائلة: “كل ما أجنيه لا يكفي ثمن الخبز والدواء، فقد ارتفع سعر الدواء كثيراً، وأجد صعوبة في تأمينه وتأمين حاجيات الأطفال والمنزل، رغم مساعدة ولدي خالد قدر الإمكان، فرغم صغر سنه حمل المسؤولية معي، فهو يساندني ويساعدني بكل عمل أقوم به، بالإضافة إلى أن زوجي رغم عجزه يرفض الرضوخ والجلوس بالمنزل فهو يخرج ويحاول جمع ما يستطيع من الأعواد لتدفئة أولاده في الشتاء”.
صمتت أم خالد لبرهة، وقد بدا الحزن على معالم وجهها المتعب، ثم أكملت قائلة: “تمنيت حياة أفضل لأسرتي لكن لم أستطع منحهم تلك الحياة، فأنا المعيل الوحيد وكل ما أجنيه لا يكفي مستلزمات المنزل، وهذا ما جعل ولدي يشعر بأنه مختلف عن أبناء جيله، فهو يحمل مسؤولية كبيرة بإعانتي في مصروف المنزل، كنت أشعر بحزنه حين يرى رفاقه يذهبون لقضاء الوقت مع بعضهم وهو ينظر إليهم من بعيد، أرى بالحسرة في عينيه، لكن لا أستطيع فعل شيء”.
كانت أم سعيد (٣٨ عاماً) جارة أم خالد تجلس معنا، فأرادت أن تشاركنا الحديث، وقالت واصفة أم خالد: “إنها امرأة بكل معنى الكلمة هادئة ونشيطة وتعمل بجد، وهي جارتي منذ سبع سنوات وبمثابة الأخت، أحاول مساعدتها قدر استطاعتي فهي امرأة صبورة ومكافحة، وتفعل المستحيل من أجل أولادها وزوجها، وتأمين حاجياتهم”.
أم وليد (٣٥ عاماً) من مدينة خان شيخون نزحت منذ سنتين وتعيش في بلدة عقربات تقول: “تعرفت إلى أم خالد من خلال سمعتها الحسنة وعملها الجيد في التنظيف تواصلت معها عن طريق أحد معارفي، وجاءت دون تردد وساعدتني في تنظيف المنزل، ووجدت فيها حسن الخلق ولطف المعاملة، فهي امرأة نشيطة ومجدة تعمل بجد، ومنذ قدومي إلى المنطقة حتى الآن، وهي تساعدني في كل ما أحتاج، وأنا أشكر جهدها وأتمنى لها حياة سعيدة ومريحة”.
“يجب على المرأة أن تتحدى جميع الصعوبات في طريقها، وخصوصاً المرأة التي لم يجد زوجها عملاً، أو تعرض لإصابة فيجب أن تسانده، لأن ذلك قضاء الله وقدره وامتحان لكل امرأة وعليها الصبر والصمود لتعيش بكرامة، وتكون قويةً وصبورةً لتنشئ أولادها بشكل صحيح”، اختتمت أم محمد حديثها.
تأمل أم خالد أن تكون عودتها قريبة إلى بلدتها كفرسجنة، وتتمنى إعادة بناء منزلها الذي دمرته الطائرة وأن يعيش أولادها بين أقربائهم، وأن يعود الأمن والسلام لوطنها سوريا.
إعداد: كادر موقع “فرش أونلاين”