أم محمد تعمل بجمع نبات “الحويش” لتعيل أسرتها
على سفح جبل متوسط الارتفاع، خيمة بيضاء صغيرة مهترئة مزقتها الآلام والأيام، بالكاد تتسع لقاطنيها مع حاجياتهم البسيطة جداً، ولا يتعدى ارتفاعها المترين، قماشها الممزق لا يقي ساكنيها برد الشتاء ولا حرّ الصيف، هنا تقطن امرأة تحدت قسوة الحياة كلها بشقائها وعنائها مع عائلتها وتدعى أم محمد، في مخيم قريب من بلدة قاح حيث تجلس ويحيط بها بضعة أكياس من “الحويش” وأربعة أطفال، الكبار يساعدونها في تنظيف “الحويش” والصغار يلعبون حولهم، وعلى الرغم من الابتسامة الرائعة التي استقبلتنا بها أم محمد إلا أنّ ما خلفته الحياة من تعب وإرهاق يبدو واضحاً في ملامح وجهها البشوش.
زهرة الإبراهيم (37عاماً) وتكنى بأم محمد مُهجّرة من بلدة معرة حرمة بريف ادلب الجنوبي، نزحت في بداية شهر رمضان الماضي، بالتزامن مع نزوح مئات الآلاف من المواطنين الذين كانوا يقطنون مدن وقرى ريف ادلب الجنوبي بسبب القصف الكثيف الذي تنفذه قوات الأسد والقوات الروسية على مدن وقرى ريف ادلب الجنوبي، وتقطن حالياً في مخيم طوبى قريباً من بلدة قاح بريف ادلب الشمالي، ويحتوي المخيم على أكثر من 500عائلة نازحة.
زهرة أم لأربعة أطفال ثلاثة ذكور وأنثى واحدة، كانت عائلة أم محمد تعيش حياة مستقرة وأحوالهم المادية متوسطة، وبسبب النزوح ساءت أوضاعهم كثيراً، كباقي العائلات التي هُجرت من مدنها وقراها، فقررت مساعدة زوجها في بلد النزوح وتقول:
“غادرنا معرة حرمة تاركين فيها روحنا وذكرياتنا الجميلة، وهي كل ما تبقى لنا، بعد أن تكفل صاروخ طائرة من طائرات نظام الأسد بهدم منزلنا الذي بنيناه بعرق جبيننا حجراً حجراً فأصبحنا بلا مأوى، وبعد أن ذقنا مرارة التشرد والنزوح والتهجير وارتحالنا من مكان إلى آخر في الشمال السوري، انتهى بنا المطاف بهذه الخيمة البسيطة، وعلى الرغم من ضيقها وصغر مساحتها إلّا أنّ العيش فيها أرحم من العيش تحت قصف الطيران في بلدتنا معرة حرمة”.
بعد أن كانت أم محمد تمتلك في بلدتها منزلاً تعيش فيه مع عائلتها حياة متوسطة، متعاونين في حمل أعباء المنزل، تعيش الآن في خيمة صغيرة، وبالرغم من صغرها إلّا أن أم محمد راضية بالعيش فيها لأنها تمكنت من إبعاد أولادها عن قصف الطيران في بلدتها.
هنا في بلد النزوح اضطرت زهرة للعمل بجمع “الحويش” وهو مجموعة من النباتات مثل “الشرينيكة” و”كرايست العنة” و”السلبين” كما يدعونها أهل المنطقة، حيث تجمعها أم محمد من الجبال والأراضي، وذلك لأن زوجها لم يجد عملاً.
تشرح أم محمد كيف وقفت بجانب زوجها في ظل النزوح وتقول: “عندما رأيت بأن الأبواب قد أغلقت في وجه زوجي ووجدته أصبح مهموماً طوال الوقت، عندها قررت ألّا أدعه يواجه محنته وحيداً بل قمت بمساعدته، فرحت أفكر بعمل لا يحتاج إلى رأس مال أتمكن من خلاله مساعدة زوجي، وبالفعل وجدت أن العمل بجمع الحويش لا يحتاج سوى سكيناً حديدية من أجل جمعه، وأصبحت أذهب كل يوم لجمعه من الجبال والأراضي القريبة، وخصوصاً من بلدة صلوة القريبة من مخيمنا، ثم أبيعه لساكني المخيم”.
أصبحن الكثير من النساء يعملن بجمع “الحويش” فهي مهنة لا تحتاج إلى رأس مال، وخصوصاً اللواتي فقدن أزواجهن ولا يوجد لهن معيل، أو اللواتي لم يجد أزواجهن عملاً في ظل الظروف الراهنة، ويتم بيع الكيلو غرام بـ 400 ليرة سورية أي حوالي ثلث دولار أمريكي.
دخلت طفلة صغيرة بعيون عسلية وشعر حريري طويل قالت: “يا خالتي تقول أمي هل جمعتتِ لها الحويش الذي طلبته منك”، تجيب أم محمد: “نعم يا ابنتي تفضلي خذيه وسلمي على أمك”، تجيب الطفلة: “سلمك الله يا خالة، شكراً”.
تضيف أم محمد: “أذهب كل يوم لجمع الحويش من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثالثة عصراً، وبعد عودتي أقوم بتنظيف الذي أحضرته، ثم أغسله بالماء وأضعه في مصفاة لتصفيته من الماء وبعد أن يجف عنه الماء أقوم بوضعه في أكياس وأزنه عند جارنا أبي أحمد الذي يمتلك محل سمانة وأقوم ببيعه لقاطني المخيم، وإذا زاد عن احتياجات أهل المخيم أضعه عند أبو أحمد فيبيعلي إياه “.
تلجأ الكثير من العائلات وخصوصاً الفقيرة إلى شراء “الحويش” وطهوه وذلك لأن ثمنه رخيصاً، ومذاقه لذيذاً وله فوائد كثيرة، وخصوصاً نبات العكوب (السلبين) والعكوب من النباتات الجبليّة ذات الأشواك؛ حيث ينمو في أعالي الجبال خلال فصل الربيع، وخاصةً عندما تهطل الأمطار بكمياتٍ جيدةٍ فإنه ينمو بشكلٍ أكبر، وذلك حسب قال لنا زوج أم محمد الذي داخل بالحديث.
وعن ثمن “الحويش” تقول زهرة أم محمد: “للحويش أنواع مختلفة ومتنوعة، ولكل نوع سعره، فإذا كان بأنواع متعددة مثل الخرفيش وكريسة العنة والشرينيكة و المخيترية يكون سعره أغلى فأبيع الكيلو غرام الواحد ب400ليرة سورية، أما إذا كان نوعاً واحداً كالخبيزة فسعره يكون أقل فأبيعه ب350 ليرة سورية، وبعض الجيران يأخذون مني كيلو الحويش ب500 ليرة من أجل مساعدتي، الحمد لله نحن نعيش من ثمن عملنا هذا عيشة مستورة، فأنا أجمع باليوم من ثلاثة إلى خمسة كيلوغرام، وأبيعها جميعها”.
داخلنا الحديث ولدها محمد 11عاماً قائلاً: “أنا أساعد أمي بجمع الحويش في أيام العطلة المدرسية فأمي تتعب من أجلنا كثيراً ويجب علينا أن نساعدها قدر المستطاع، أنا أحبها وأقدرها كثيراً”.
صوت امرأة تنادي بالخارج على أم محمد، تجيب أم محمد تفضلي يا أم خالد، تدخل امرأة يبدو أنها في الأربعين من عمرها تسلم وتقول: “يا أم محمد هل جهزتِ لي الحويش الذي أوصيتك عليه؟”، ردت أم محمد: ” نعم يا جارتي العزيزة وقد وضعته في المصفاة لتصفية الماء عنه”، وبينما أخذت أم محمد بإحضار “الحويش” ووضعه في أكياس تحدثت أم خالد عن عمل أم محمد مادحة: “أنا أشتري الحويش من عند أم محمد لأنها تنظفه جيداً وتحافظ عليه، أم محمد امرأة مكافحة وصبورة”.
أراد أبو محمد (40 عامًا) أن يعبر عن امتنانه لزوجته حيث يقول: “أنا أقدر لأم محمد وقوفها بجانبي في هذه الأوقات العصيبة التي تمر على الجميع، أم محمد امرأة أصيلة وقليل من النساء مثلها”.
“يجب على المرأة أن تكون سنداً لزوجها وعائلتها، وألا تقف موقف المتفرج فيجب أن تساهم في مساعدة عائلتها وألّا تكون عائقاً، فالحياة صعبة ويجب ألا نستسلم بكل الظروف حتى نستطيع التغلب عليها” تختتم أم محمد حديثها.
جلّ ما تتمناه أم محمد أن يفرج الله كربتهم وكربة بلدهم، وأن يعم الأمن والأمان لينعم جميع الناس بالعيش بسلام.
إعداد: فريق فرش أونلاين