المعلمة سناء المحمد تتابع دروس تلاميذها عن بعد بسبب جائحة كورونا
أوراق مبعثرة هنا وأقلام متناثرة في أرجاء الغرفة وفنجان قهوة هنا وكأس شاي هناك، وهاتف لا يتوقف عن الرنين وثلاثة أطفال يجتمعون حول هاتف آخر صغير ويمسكون كتباً وأقلاماً ودفاتر، وفي وسط كل هذه الأشياء تجلس امرأة في الثلاثين من عمرها تبدو على وجهها علامات التحدي والصمود وتحمل هاتفاً جوالاً في يدها وقلماً ودفتراً في يدها الأخرى، وبجانبها العديد من الأقلام الملونة، منهمكة بتقليب صفحات الكتب وتدوين ما يهمها على أوراق بيضاء، وطفل صغير يشد الأوراق من أمامها.
سناء المحمد، وتكنى بأم أحمد (36عاماً)، أم لأربعة أطفال، ثلاثة ذكور وأنثى واحدة، نازحة من مدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي، نزحت في منتصف شهر أيار الماضي (2019) بسبب القصف الكثيف الذي نفذته قوات الأسد والعدوان الروسي على مدن وقرى ريف إدلب الجنوبي، وتقطن حالياً في مخيم العبد الله قريباً من بلدة قاح بريف إدلب الشمالي، ويقطن المخيم حوالي 400عائلة نازحة من مدينة كفرنبل وبلدة حاس، ويخضع لسيطرة الفصائل الثورية.
تقول أم أحمد: “فور وصولنا إلى هنا واستقرارنا بهذا المنزل الصغير، طلبت من زوجي أن يسمح لي بالتدريس، بحكم أنني أحمل شهادة جامعية، فهو لم يجد عملاً له، وافق على ذلك وبالفعل أنا الآن أعمل معلمة في مدرسة قريبة من مخيمنا تسمى أبي ذر الغفاري، وأتقاضى راتباً قدره 150 دولاراً شهرياً”.
دخل الغرفة طفل بعيون زرقاء وشعر أشقر حريري، قاطع كلامنا قائلاً: “ماما ما عم أعرف حل مسألة الرياضيات بالوظيفة الي أرسلها المعلم على الوتس، ولازم إرسالها قبل الساعة وحدة الضهر أرجوكي ساعديني”، “هذا ولدي أحمد في الصف السادس هو طالب مجد وشاطر ويحب الدراسة، ولا يريد أن يتفوق عليه أحد في صفه”، تقول سناء.
وبعد أن أرشدت سناء ولدها لطريقة حل المسألة أكملت حديثها قائلة: “في بداية العام الدراسي كنت أذهب لتعليم التلاميذ في المدرسة، وكنت سعيدة بعملي خاصة عندما أرى نتيجة تعبي في تقدم التلاميذ وتفوقهم، ولكن”، هنا توقفت سناء عن الكلام وخيّم السكون على المكان، وبدأت معالم الحزن تظهر على ملامحها، وتقول:
“بعد ظهور هذا المرض الذي يسمى كورونا، والذي انتشر بشكل واسع في أنحاء العالم، أُغلقت المدراس وذلك حفاظاً على سلامة التلاميذ والمعلمين من العدوى بهذا المرض الخطير”.
مرض كورونا مرض خطير بدأ انتشاره في الصين وانتقل إلى أنحاء العالم، وهو مرض يشبه مرض الانفلونزا (الرشح والكريب) في أعراضه ولكن أعراضه أكثر قوة وحدة، يصيب المريض وتكون شدته بحسب قوة مناعة الجسم، فالجسم ذو المناعة الضعيفة يضعف أمام هذا المرض، أما الجسم ذو المناعة القوية يقاوم المرض ويقضي عليه، والمسنين أكثر عرضة للموت بسبب الفيروس.
وبما أن المعلمين والتلاميذ لم يعد بإمكانهم الذهاب إلى المدرسة خوفاً من فيروس كورونا، فكان لا بد من إيجاد وسيلة أخرى من أجل ألّا ينقطع التلاميذ عن التعليم، تقول سناء: “عندما أصبحنا غير قادرين على الاستمرار بالدوام المدرسي، اقترحت مديرية التربية نظام التعلم عن بعد، من أجل شرح الدروس للتلاميذ ليتمكنوا من متابعة تعليمهم”.
رنّ هاتف سناء فقالت إنه: “تلميذي خالد قد أنهى حل الوظيفة”، وتحدثت إليه عبر الهاتف قائلة: “ممتاز يا خالد أنت طالب مجد وشاطر أحسنت، أتمنى لك التفوق والنجاح الدائم”، أجاب خالد عبر الهاتف: “شكراً يا معلمتي الغالية، أنا أحبك كثيراً”.
ثم شرحت لنا سناء عن طريقة التعليم عن بعد: “أقوم بتحضير الدروس على أوراق بيضاء كبيرة، وأقوم بكتابة الدرس بلون والأسئلة بلون آخر والحل بلون مختلف وأكتب بخط كبير وواضح، لتكون القراءة سهلة على التلاميذ”.
تتابع سناء الحديث: “وبعد الانتهاء من تحضير الدروس بشكل جيد أقوم بشرح الدرس للتلاميذ عبر مقطع فيديو أرسله على مجموعة واتس أب قمت بإنشائها لتلاميذ صفي، ومن خلالها أقوم بالتواصل معهم”.
صوت طرق على الباب، دخلت امرأة في الثلاثين من عمرها عرفت أنها أم محمود جاءت لتأخذ دروس ولدها محمود، وبينما قامت سناء لتحضر بعض الأوراق وتعطيها لأم محمود، حدثتنا أم محمود: “المعلمة سناء نعم المعلمة فهي بالإضافة لتعليمها التلاميذ بواسطة الهاتف، تقوم بكتابة الدروس وشرحها على أوراق خاصة للتلاميذ الذين لا يستطيع أهلهم امتلاك هواتف مثلي، فأنا امرأة متوسطة الحال ولا يمكنني أن أشتري هاتفاً، جزاها الله عنا كل خير”.
ابتسمت سناء وقالت: “هذا واجبي يا أم محمود أتمنى أن يقدرني الله على القيام به على أكمل وجه”
وعن الصعوبات التي تواجهها سناء في التعلم عن بعد، تقول: “أصبح الآن الجهد في التعلم عن بعد مضاعفاً، بسبب الضغط والتعب الكبير في تصوير الدروس، واتباع طريقة خاصة في شرحها لإيصال المعلومة للتلاميذ، واستخدام برامج خاصة من أجل تنسيق هذه الفيديوهات لتصبح واضحة ومفيدة، وأيضاً أبقى مشغولة طوال الوقت بالرد على أسئلة واستفسارات التلاميذ، ورغم تعبي في ذلك إلّا أنني سعيدة لأنني أقوم بواجبي بما يرضي الله، صحيح أن التدريس في السابق كان أسهل، ولكن يجب علينا أن نتحمل الكثير من أجل إيصال المعلومة لأبنائنا التلاميذ”.
صوت رجل ينادي في الخارج قالت له سناء: “ادخل يا أبا أحمد، دخل رجل في الأربعين من عمره عرفت به أنه زوجها، بعد أن ألقى التحية وجلس لبرهة أحب أن يشاركنا الحديث قائلاً: ” زوجتي امرأة صبورة وتتحدى جميع العقبات التي تعترضها مهما كان ذلك شاقاً عليها، خاصة بوجود الطفل الصغير فتصوير الدروس يحتاج للهدوء، لتنجح في النهاية بفعل ما تريد، وهمها الوحيد تعليم تلاميذها في كل الظروف”.
فرحت سناء بكلام زوجها وقالت: “لولا وقوفك بجانبي ومساعدتك لي وللأولاد لما استطعت أن أفعل شيئاً بمفردي، أنا أشكرك على ذلك كثيراً”.
ركضت طفلة صغيرة بعيون زرقاء وشعر أسود تحمل دفتراً وقلماً، عرفنا أنها ابنة سناء وهي مستمعة بالصف الأول، وبكل عفوية وبراءة قالت: “ماما الأستاذ ما بعتلي الوظايف عالوتس شوفيلي اياهن بدي اكتبن قبل ما يسبقوني رفقاتي، لأن ما بقا احسن روح عالمدرسة وأنتي كمان خليكي بالبيت لتروح الكورونا”.
ضحكت سناء وقالت: “لبنى ابنتي الوحيدة وهي فرحة هذا المنزل لولا وجودها لما وجدت لحياتي معنىً، كم أحبك يا صغيرتي”.
“أتمنى أن يرفع الله عنا هذا البلاء وأن نعود إلى أعمالنا ومدارسنا، فمهما كان التعلم عن بعد ناجحاً، فهو لا يعوض عن التعليم في المدرسة، حيث يرى التلميذ المعلم ويستمع لنصائحه وإرشاداته، كما أن سعادتي لا توصف عندما أرى تلاميذي وأتحدث معهم وأرسم البسمة على وجوههم” تختتم إسراء حديثها.
تتمنى إسراء عودة الصحة والعافية لكل الناس وذهاب البلاء والهم والغم عن البلاد، لتعود الحياة إلى طبيعتها وجميع الناس إلى أعمالهم.
إعداد: كادر موقع فرش أونلاين