ريما تنافس الرجال في ميدان البالة
ليست صالة أزياء ولا محل ملبوسات فخم، بل مجرد غرفة صغيرة في منزل والدها جعلتها مصدراً للعيش، وتحتوي أكواماً من الملبوسات المستعملة (بالة) وزعتها في أرجاء الغرفة حسب مقاساتها، كل شيء على حدة، وربطت خيوطاً من النايلون على الجدران مثبتة بمسامير من جميع الزوايا وعلقت عليها بعض الملبوسات لعرضها.
اسمها ريما ومعروفة بأم عبد الله (27 عاماً) تعيش في قرية البلاط التابعة لمدينة عزمارين بريف إدلب الشمالي، وهي أم لطفلين، زوجها من الثوار السوريين قاتل نظام بشار الأسد واستشهد في معارك ريف اللاذقية عام 2016، وتعمل في تجارة البالة التي عادة ما تعتبر مهنة شاقة وحكراً على الرجال.
وتخضع محافظة إدلب لسيطرة الفصائل الثورية، ويتجاوز تعداد سكانها ثلاثة ملايين نسمة.
والبالة هي ملبوسات وأحذية مستعملة صيفية وشتوية وربيعية وبجميع المقاسات، بالإضافة لمفروشات مستعملة، تباع بطرود محزمة بأوزان مختلفة كل وزن بسعر معين، وهي بضائع مستوردة من خارج سوريا يقوم التجار ببيعها في الداخل.
وقد كثرت محلات البالة في زمن الثورة لانخفاض أسعارها وحاجة الناس إليها بسبب غلاء أسعار الملبوسات الجديدة وعدم قدرة كثير من الأسر على شرائها.
“اضطررت للعمل وحمل المسؤولية في سن مبكر لأعيل أطفالي”. هكذا بدأت أم عبد الله حديثها معنا وتابعت: “قررت العمل وكانت أول مرة أذهب فيها لجلب البالة برفقة والدي وعمتي إلى مدينة سرمدا، بدأت التعامل مع تاجر يسمى الحاج أبو عمر، أشتري منه بسعر جيد كل فترة عندما يتوفر بحوزتي قدر كافٍ من النقود”.
وأضافت: “البضاعة التي أشتريها متوسطة القيمة حتى يستطيع أهل القرية شراءها كون قريتي صغيرة وأهلها متوسطي المستوى المادي، وأبيع القطعة حسب مقاسها من خمسين إلى خمسمئة ليرة سورية غالباً”.
ومن الصعوبات التي تواجهها أم عبد الله في تجارتها هذه تقلبات سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار وارتفاع أجور النقل، وتقول: “ارتفاع الدولار يؤثر سلباً بشكل كبير على عملي، فأنا أشتري البضاعة بالدولار وأبيعها بالليرة السورية”. وبالتالي فعلى أم عبد الله أن ترفع أسعار البضائع كلما ارتفع سعر الدولار لتحصل على نسبة الربح المتوقعة نفسها، أو لتتجنب الخسارة، وهذا الأمر يزعج الزبائن ويمنع أم عبد الله من رفع السعر في كثير من الحالات، كما أوضحت.
وتتابع: “كما أنني أعاني من كثرة الارتفاع في أسعار المحروقات الذي يؤدي إلى ارتفاع أجور النقل، ففي كثير من الحالات أفضل عدم الذهاب إلى مدينة سرمدا بسبب ارتفاع أجرة السيارة”. ولكن ذلك لم يجعل أم عبد الله تقف عاجزة وإنما هي تعمل على قدر استطاعتها، بحسب ما أرادت أن تفهمنا إياه.
وتحدثت أم عبد الله عن معاناتها وقسوة الحياة بعد أن فقدت زوجها وقالت: “استشهد زوجي وكان لدي طفل وكنت حاملاً بطفلتي في أشهري الأولى وكان عليّ أن أبقى في العدة حتى ولادتي، فقام بمساعدتي والدي وإخوة زوجي بالمصروف مدة سنة ونصف، لكن بسبب الظروف القاسية التي تعيشها سوريا لم يعودوا يستطيعون تأمين حاجاتهم ومصاريف عائلاتهم وخاصة مع اشتداد البطالة وانعدام فرص العمل”.
وأضافت: “عندما بلغت طفلتي السنة والنصف من العمر قررت العمل والاعتماد على نفسي رغم التضييق من المجتمع كوني أرملة، فلم أرضخ لحديث أحد وبدأت العمل بقطف الزيتون وقلع البطاطا والحصاد وأي عمل أستطيع القيام به، وبعد أن تمكنت من جمع مبلغ من المال اقترح علي بعض أقربائي العمل في البالة وكانت فكرة جيدة بالنسبة لي”.
أم محمد (35 عاماً) -وهي إحدى زبونات محل أم عبد الله- تشاركنا الحديث وتقول: “أنا أقصد أم عبد الله كل فترة لأشتري بعض الملبوسات لأولادي، فأسعارها جيدة، وهي امرأة طيبة حسنة المعاملة تبيع كثيراً من نساء القرية بالدين والقسط المريح لعدم التضييق على أحد رغم أنها أم وكفيلة لأيتام”.
وتقطع حديثنا زبونة أخرى تدعى أم حسين (25 عاماً) سائلة أم عبد الله: “هل لديك كنزات صوفية وملبوسات ولادية شتوية، فالشتاء على الأبواب؟”، تجيبها أم عبد الله: “لم يبق سوى الموجود خلفك في الزاوية جانب النافذة، ولكن بعد يومين سأذهب لشراء بضاعة شتوية للأطفال والنساء إن شاء الله”.
وتبدي أم عبد الله تفاؤلاً بالمستقبل وتتحدث عن اكتسابها خبرات كثيرة في هذه الحياة القاسية في زمن قصير وتختم حديثها قائلة: “الآن أصبحت قادرة على أن أعيش بمفردي مع أولادي، فأنا أستطيع تأمين جميع متطلباتهم بعملي، فقد تعلمت كثيراً من الحياة”.
وتتابع: “الحمد لله رب العالمين، هناك كثير من الأبناء الذين لم يفقدوا أحداً من والديهم ولكن لم تتأمن لهم حياة كريمة مثل أولادي، وأنا مستعدة للعمل بأي شيء لأعيش بكرامة، والدنيا درس لنتعلم منها، وهي في النهاية امتحان من رب العالمين، الحمد لله قدر الله وما شاء فعل، والعمل يحتاج إلى الصبر، والذي يصبر ينال”.
إعداد: تغريد العثمان