هالة امرأة تعين زوجها وتقف سدًا منيعًا في مواجهة مأساة التهجير الجماعي
أقفاص كثيرة كبيرة وصغيرة معلقة إلى جدران غرفة صغيرة، تحتوي عصافير متعددة الألوان والأشكال والأحجام، في أرض الغرفة فرشٌ بسيط، تجلس عليه امرأة تتأمل تلك العصافير بشغف.
هالة (اسم مستعار) امرأة نازحة من مدينة كفرنبل بريف ادلب الجنوبي، إلى بلدة قاح بريف ادلب الشمالي، عمرها 39 عاماً حدثتنا عن وقوفها بجانب زوجها في أزمته في ظل النزوح.
“عندما وجدتُ الأبواب أغلقت بوجه زوجي ولم يعد يستطع تأمين أيّ عمل، ففرص العمل أصبحت شبه مستحيلة في ظلِ الأوضاعِ الراهنة، وكان لا بدّ لنا من تأمين دخلٍ لكي نستطيع من خلاله تأمين قوتنا وقوت أطفالنا، فأنا لدي عائلة كبيرة مؤلفة من سبعة أولاد”، تقول هالة في بداية الحديث شاكية صعوبة المرحلة الأولى من النزوح.
لقد نزح مئات الآلاف من ريف ادلب الجنوبي إلى الشمالي مؤخراً بسبب قصف قوات الأسد والقوات الروسية للمدنيين القاطنين في مناطق نفوذ الفصائل الثورية.
وتتابع هالة الحديث: “هنا بدأت أفكر بطريقة أكون فيها سنداً لزوجي وقررت ألّا أستسلم لهذا الواقع المؤلم وخصوصاً في ظل النزوح، فقد نزحت مع عائلتي من مدينتي كفرنبل خوفاً من القصف المتواصل إلى بلدة أكثر أماناً من مدينتنا، هنا في بلد النزوح لم يستطع زوجي تأمين عمل له مما جعلنا نعيش في ضائقة مادية كبيرة، ولم نعد نستطيع تأمين حاجيات أطفالنا الكثيرة”.
قطع حديث هالة دخول طفل صغير ضاحكاً “ماما اليوم أخدت عشرة بالمذاكرة”، فابتسمت هالة وقبلت ابنها، ولم تكمل حديثها ولم تقل كيف تمكنت من الوقوف بجانب زوجها وكيف أنها قامت بمساعدته في محنته، وبعد سؤالها أجابت بكل فخر واعتزاز “عندما رأيت زوجي لم يتمكن من تأمين عمل قررت الوقوف بجانبه وألّا أتركه لمصاعب الحياة وحده، ففكرت بعمل يناسبني وفي الوقت ذاته يُمَكنني من البقاء في المنزل ورعاية أطفالي”.
اقترحت هالة على زوجها أن تقوم بخياطة الملابس للنساء النازحات من بلدهن ولأطفالهن، فهي تمتلك ماكينة منزلية (ليست كهربائية) لخياطة الملابس، فأعجبته الفكرة وخاصة أن العمل في المنزل، وبالفعل بدأت بخياطة الملابس، وبدأت تنقل النساءُ مهارة هالة لبعضها.
سناء (35 عاماً) جاءت لقياس ثوبٍ لها كانت تُخيطه عند هالة تقول: “أنا أخيط ملابسي وملابس بناتي هنا عند هالة فهي تتقن الخياطة بشكل ممتاز، بالإضافة لذلك هي امرأة متسامحة وتتقاضى مبلغاً معقولاً مقابل خياطة الملابس، فتتقاضى مبلغ 1000ليرة سورية أجرة خياطة ثوب المرأة ومبلغ 500ليرة لثوب الطفلة، فأسعار الملابس الجاهزة مرتفع جداً وأنا لا يمكنني شراؤها.
مهنة الخياطة من المهن الشائعة بين النساء منذ القديم وحتى يومنا هذا، فكانت كل امرأة لا تجد مورداً تعيش منه مع أسرتها تتخذ من هذه المهنة عملاً لها، تكسب منه النقود التي تعينها على متطلبات الحياة وإعالة أسرتها وخاصة النساء اللواتي لا يجد أزواجهن عملاً أو النسوة اللواتي ليس لهن معيل.
هنا دخلت شابة في مقتبل العمر وألقت علينا التحية وجلست: “إنها ابنتي الكبرى مرح وهي تدرس بالجامعة بالسنة الثانية”، ابتسمت مرح لكلام أمها وشاركتنا الحديث قائلة : “أمي أم مثالية وصبورة، وعندما ترى والدي حزيناً ومثقلاً بالهموم، دائماً ما تحاول التخفيف عنه والوقوف بجانبه بكل ما تستطيع من قوة، وأنا أحبها وأفتخر بها كثيراً”.
أصبح لدي فضول كبير لأستمع لباقي قصة هالة فسألتها وهل كان مردود مهنة الخياطة جيداً؟، “أجل وتمكنت من خلال مردود الخياطة أن أجمع مبلغاً جيداً من المال، فطلبت من زوجي شراء عصافير الزينة بهذا المبلغ، من أجل تربيتها والمتاجرة بما تنتجه من فراخٍ صغيرة”.
للعصافير أنواع كثيرة ولكلٍ منها ميزاته فالحسون يتميز بصوته الجميل ومنظره الجذاب وهو بالأصل كان من الطيور البرية وقد تمكن الإنسان من ترويضه وتربيته داخل القفص، وطائر الأتالوكس يتميز بطول رقبته وأقدامه ونوعه مرغوب ولكن سعره مرتفع، واللونك يتميز بحجمه الكبير وألوانه جميلة أصفر وبرتقالي.
أصبح زوج هالة تاجر طيور خلال فترة بسيطة بتصميمه وتصميم زوجته على مواجهة ظروف الحياة القاسية في الريف الشمالي لادلب حيث غلاء المعيشة وارتفاع الأجارات.
صوت قهقهة وتنقير على الباب، رجل يقول: هالة هل لديك ضيوف؟، فأجابت أدخل يا أبا أحمد، فدخل وسلم علينا، وقال: “هل أعجبتكم هذه العصافير؟ إن لهذه العصافير الملونة قصة طويلة وجميلة، هل حدثتهم عن قصتها يا هالة ؟.
أبو أحمد (42 عاماً) عن زوجته قائلاً “هالة زوجتي نعم الزوجة وقفت إلى جانبي عندما ضاقت هذه الحياة بي واسودت الدنيا في عينيّ، وساعدتني كثيراً، لأنها لا تحب أن تراني حزيناً أو مهموماً، فهي التي شجعتني على العمل بتجارة العصافير وذلك بما جمعته من نقود من عملها بالخياطة، وبمساندة بعضنا بعضاً استطعنا أن نتغلب على جميع مصاعب الحياة وتمكنّا من بناء منزلٍ صغيرٍ ولكنه بالنسبة لنا قصرٌ عظيم لأنه جمع شملنا و أنقذنا من الحاجة للناس وعشنا فيه بكرامة بفضل من الله تعالى”.
يحاول أبو أحمد إسعادنا بالعصافير وبدأ بشرحٍ لنا القليل عنها: “عصافير الزينة لها أنواع وأشكال متعددة، كالكناري والبلدي الأبيض والجزري وغيرها وتختلف أسعارها بحسب نوعها وشكلها فمنها الباهظ الثمن ومنها الأرخص سعراً، وهي عصافير جميلة جداً وصوتها عذب وشجي، وتحتاج لعناية خاصة وكبيرة ومعرفة جيدة بالعصافير وحياتها، كي تبقى على قيد الحياة، وتدر تجارة العصافير ربحاً كبيراً على أصحابها عندما يعتنون بها ويطعمونها ويختارون الأنواع الجيدة منها، ولذلك يتخذها معظم الناس مورداً لتأمين متطلبات حياتهم”.
وعند سؤاله ماذا يطعمون العصافير وكيف يعتنون بها أجاب: “نقوم بتنظيف الأقفاص كل يومين ونقوم بتغيير المياه أيضاً كل يومين، ونطعمها حبوب تسمى القنبز وأيضاً نطعمها البيض المسلوق والتفاح الأحمر بين الحين والآخر ونقوم بمراقبتها بشكل مستمر ونضع لها دواء الالتهاب في الماء ونرشها ببودرة للنموز حتى لا يميتها”.
وأضاف أبو أحمد: “بعد أن تبيض الأنثى بيوضها تحتضن البيض لمدة أسبوعين حتى تفقس تلك البيوض، وتقوم هي بإطعام الفراخ مدة خمسة أيام، وبعدها يقوم الذكر بمشاركتها بإطعام الفراخ وعندما يصبح عمر الفراخ شهر تصبح قادرة على الاعتماد على نفسها بالطعام، عندها نقوم بعزل الفراخ عن الأبوين، وتحتاج العصافير لعناية خاصة، ففي فصل الصيف تحتاج إلى المروحة لأن الحرّ الزائد لا يناسبها وفي فصل الشتاء تحتاج إلى الدفء فنضع لها المدفئة من أجل تدفئتها”.
في ظل هذه الحرب القاسية كان لابد لهالة من أن تقف إلى جانب زوجها وتكون سنداً له، وخصوصاً بسبب الحاجة المتزايدة للمال والارتفاع المستمر للأسعار، واستطاعت هالة بإصرارها وعزيمتها أن تحقق ما تصبو إليه، وأن تعين زوجها وأسرتها وأن تحيى حياة كريمة دونما حاجة أحد.
إعداد: وفاء الحلاق