أم محمد تصر على العمل من أجل مساندة زوجها في بلد النزوح
ستائر قماشية مصنوعة من قماش البطانيات تتطاير مع نسمات الهواء الباردة، وضعت عوضاً عن الأبواب والنوافذ في شقة بالطابق الثالث مؤلفة من ثلاث غرف، في إحداها وعلى أحد الجدران عُلق جهاز لقياس الضغط، وإلى جانبه رفٌ صغير وضعت فوقه بعض الأدوية والحقن، وفي هذه الغرفة تجلس امرأة تبدو عليها علامات التحدي والقوة تدعى أم محمد.
أم محمد (42عاماً) نازحة من مدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي، نزحت مع عائلتها في بداية شهر أيار الماضي بسبب القصف الذي شنته قوات الأسد والعدوان الروسي على مدن وقرى ريف إدلب الجنوبي، وانتهى بهم المطاف في مدينة الدانا بريف إدلب الشمالي.
يسيطر على مدينة الدنا الواقعة شمالي سوريا الفصائل الثورية ويقطنها أكثر من مئة ألف إنسان بعد أن تهجر إليها الكثير من سكان جنوب ادلب سبب الحملة التي تعرض لها.
أم محمد لديها أربعة أولاد، ولدان وبنتان، كانت عائلة أم محمد تعيش حياة مستقرة وسعيدة وأحوالهم المادية جيدة، ولكن بسبب النزوح ساءت أوضاعهم كما جميع العائلات التي هُجرت عن مدنها وقراها، وهنا في بلد النزوح أصبح عبء العائلة على عاتق أم محمد وحدها حيث فقد زوجها عمله.
تقول أم محمد: “بعد تعرض مدينتنا كفرنبل للقصف من قبل قوات الأسد والعدوان الروسي بشتى أنواع الأسلحة، لم نعد قادرين على البقاء فيها، حيث أصبح الرعب والموت يحيط بنا من كل مكان، فغادرنا المدينة تاركين ذكرياتنا وبيتنا الدافئ وكل ما نملك، وجئنا إلى هذا المنزل وقررنا أن نصلحه قليلاً لنتمكن من السكن فيه، ووضعنا البطانيات على النوافذ والأبواب، كما وضعنا باباً خارجياً للشقة، ومع كل تلك المصاعب قررتُ ألا أدع زوجي يواجه قسوة الحياة وحده”.
وشرحت أم محمد عن وقوفها بجانب زوجها في بلد النزوح: “بما أنني أحمل شهادة في التمريض، رحت أتقدم لمسابقات التمريض هنا، وبالفعل تم قبول طلبي من قبل منظمة الأوسم، وأنا الآن أعمل ممرضة في مستوصف ببلدة تقاد بريف حلب الغربي”.
تضيف أم محمد: “أنا سعيدة بعملي لأنني من خلاله أستطيع مساعدة المرضى والتخفيف من آلامهم، وأيضاً أعطي الأطفال اللقاحات اللازمة، حيث أساهم في مصروف المنزل من خلال الراتب الذي أتقاضاه”.
يقدم المستوصف الذي تعمل فيه أم محمد الرعاية الصحية المجانية للمدنيين وخاصة الأطفال من لقاحات وغيرها، ويقدم أيضاً الدواء والفحوصات لجميع المرضى من سكان المنطقة والنازحين إليها.
حدثتنا أم محمد عن عمل زوجها قبل تهجيرهم من مدينتهم قائلة: “كان زوجي يعمل ميكانيكياً، عندما كنا في مدينتنا كفرنبل في محل لتصليح السيارات، في الحي الجنوبي للمدينة، وكنا نعيش من مردود المحل”.
دخلت شابة في مقتبل العمر تحمل بين يديها صينية عليها فناجين قهوة ملأت رائحتها الغرفة، وقالت: “تفضلي يا خالة”، عرفت أنها ابنة أم محمد الكبرى وتدعى روان في السنة الأولى من الجامعة.
جلست روان تستمع إلى حديثنا ثم داخلتنا الحديث مفتخرة بوالدتها: “أنا أفتخر بأمي كثيراً، فأمي تفعل ما بوسعها من أجل راحتنا وتأمين احتياجاتنا، وهي تقف بجانب والدي دائماً”.
ابتسمت أم محمد لكلام ابنتها، وقالت: “سعادتكم تنسيني كل تعبي وشقائي”.
ثم بدا على وجه أم محمد علامات الحزن واغرورقت عيناها بالدموع عندما تذكرت ما حدث لمنزلهم ولمحل زوجها ومعداته، وقالت:
“بعد نزوحنا بفترة وجيزة، علمنا من أحد أقاربنا بأن منزلنا ومحل زوجي الذي كان يعمل فيه قد تعرضا لغارة طائرة حربية، أدت إلى تهدم قسم كبير من المنزل، وإلى تحطيم معدات المحل، فخسرنا بذلك منزلنا وفقدنا معه مصدر رزقنا، لقد حزنت كثيراً في البداية، فقد ذهب شقى عمرنا في لمح البصر، ولكن نحمد الله على كل حال”.
صوت طرقات على الباب الخارجي للشقة، دخلت أم سعيد جارة أم محمد جاءت من أجل قياس الضغط، فقالت أم محمد: “أهلاً ومرحباً بجارتي العزيزة أم سعيد تفضلي بالدخول”، وبينما تجهز أم محمد جهاز قياس الضغط حدثتنا أم سعيد قليلاً عن أم محمد مادحة: “أنا أعاني من ارتفاع الضغط بسبب العمر فقد أصبح عمري 55 عاماً، ويجب عليّ مراقبته باستمرار وقبل مجيء أم محمد للسكن هنا كنت دائماً في حيرة من أمري، وبالكاد أجد من يقيس لي ضغطي، أما الآن وبوجود أم محمد لم أعد أحمل هم قياس الضغط أبداً، شكراً لك يا أم محمد فأنت نعم الجارة”.
قالت أم محمد: “أنا لم أفعل إلا واجبي وأحمد الله الذي رزقني بكم فأنتم نعم الجيران”.
كانت والدة أم محمد تجلس معنا وتستمع إلى حديثنا ويبدو على وجهها علامات الرضى لما نقول، ثم أرادت أن تعبر عن فخرها بابنتها: “ابنتي صبورة ومضحية فقد ضحت في سبيل عائلتها من أجل ألا يحتاجوا أحداً، وهي تقوم بمساعدتنا أيضاً فلولا وجودها بالقرب منا لما عرفنا أنا ووالدها كيف نتناول أدويتنا الكثيرة فنحن كبار في السن، وننسى ميعاد كل دواء، فنخشى أن نخلط بينها ولكن ابنتي دائماً تنبهنا وتذكرنا بمواعيد تناول الأدوية، نحن نفتخر بها كثيراً”.
فرحت أم محمد لكلام أمها، وقالت: “بل أنتم الفخر لي في هذه الحياة ورضاكم عني غايتي ومطلبي، وأنتم نعم الأهل لأنكم ربيتموني على حب الخير والعطاء ومساعدة المحتاجين”.
قطعت رغد (8 أعوام) حديث والدتها قائلة بكل عفوية: “ماما أنا بس اكبر بدي صير ممرضة وساعد المرضى واعتني فيهن متلك، وأعطيهن الدوا امشان يطيبوا، ماما أنا بحبك لأنك بتساعدي الناس”.
كانت أم محمد تنظر إلى ابنتها الصغرى وعلامات الفرحة بادية على وجهها وضمتها إلى صدرها قائلة: “كم أحبك يا ابنتي فأنت البهجة لهذا المنزل”.
صوت رجل يستأذن بالدخول إلى الغرفة وقد نادى على زوجته: “ماذا تفعلون يا أم محمد”؟ أجابت قائلة: “تفضل يا أبا محمد”، دخل أبو محمد ويبدو أنه في الخمسين من عمره ألقى التحية وجلس، وبعد إنصاته لنا بعض الوقت، شاركنا الحديث معبراً عن امتنانه لزوجته لوقوفها بجانبه في هذه الأوقات العصيبة:
“أنا ممتن لأم محمد كثيراً، فقد فعلت المستحيل من أجل ألا تدعني أواجه مصاعب الحياة بمفردي، فهي دائماً تقف بجانبي، وتساعدني بحمل أعباء المنزل، وخصوصاً في محنتي بعد النزوح”.
كل تلك المصاعب القاسية جعلت من أم محمد امرأة قوية، ولم تستسلم مطلقاً بل كانت النور الذي يبث الأمل في طريق عائلتها.
“يجب على المرأة أن تتحدى جميع الظروف وأن تكون سداً منيعاً في وجهها، ويجب ألا تدع زوجها يواجه مصاعب الحياة وحده، فالحياة بالتعاون تسير بيسر وسهولة” تختتم أم محمد حديثها.
تصبر أم محمد كما جميع النازحين على أمل العودة إلى بلدتها، وتتمنى أن يعم السلام والخير كل البلاد ليعود جميع النازحين الذين أدمى قلوبهم الشوق إلى بيوتهم.
إعداد: كادر موقع فرش أونلاين