سلوى الأحمد تواصل الخياطة في المخيم من أجل إعالة أطفالها
بين مئات المنازل المتشابهة وعلى هضبة جبلية، منزل صغير مؤلف من غرفة واحدة مقسومة بستارة قماشية كبيرة إلى قسمين، في زاوية القسم الأول وضعت ماكينة خياطة يدوية، وحبل من القماش وضعت عليه أقمشة شتوية وصيفية وزينة للفساتين، والقسم الآخر يحتوي على أثاث المنزل البسيط حيث تقطن فيه أم أمجد مع أطفالها، وعلى الرغم من الابتسامة المرسومة على شفتيها إلّا أن نظراتها وملامح وجهها تعكس حجم الألم والقهر الذي تخفيه خلفها.
سلوى الأحمد، وتكنى بأم أمجد (36 عاماً) مُهجرة من مدينة كفرنبل بريف ادلب الجنوبي، نزحت في منتصف شهر أيار الماضي، وتقطن حالياً في مخيم العبد الله بالقرب من بلدة قاح، ويحتوي المخيم على حوالي 400عائلة نازحة، هجرت كما هجر مئات الآلاف من المواطنين القاطنين في مدن وقرى ريف ادلب الجنوبي، بسبب حملة القصف الشرسة التي شنها نظام الأسد وروسيا على ريف ادلب الجنوبي منذ عام والذي تسبب في هجرة سكان الريف الجنوبي للشمال حيث تسيطر الفصائل الثورية.
سلوى أم لثلاثة أولاد ذكور، كانت أم أمجد تعيش حياة مستقرة مع أطفالها، وأحوالهم المادية متوسطة، وبسبب النزوح ساءت أوضاعهم كما جميع العائلات التي هُجرت عن مدنها وقراها، ولم تجد عملاً سوى عملها السابق في مدينتها كفرنبل بخياطة الثياب، وتتحدث عن معاناتها خلال نزوحها وتقول:
“بعد معاناة طويلة مع النزوح والتهجير وانتقالنا من مكان إلى آخر في الشمال السوري، قررت الاستقرار مع أطفالي في هذا المنزل الصغير المؤلف من غرفة واحدة، والذي قمت بشرائه من المال الذي ادخرته لوقت الحاجة، في البداية أصبحت في حيرة من أمري كيف بإمكاني ممارسة مهنة الخياطة، فهي مصدر رزقي مع أطفالي وأنا لا أمتلك سوى غرفة واحدة، ثم قررت تقسيم الغرفة إلى قسمين بواسطة ستارة قماشية، قسم للخياطة والقسم الآخر لأثاث المنزل”.
وبدا على ملامح وجه أم أمجد الحزن والأسى عندما تذكرت ذلك اليوم الذي خسرت فيه زوجها بإحدى المعارك مع قوات نظام الأسد وتقول: “كان يوم 15 من شهر شباط من عام 2013 هو اليوم الذي قلب حياتي من البياض إلى السواد ففي ذلك اليوم ودعت رفيق دربي وسندي في هذه الحياة، حيث استشهد في إحدى المعارك مع نظام الأسد المجرم، صحيح أنه مضى عدّة أعوام على استشهاده، ولكنني لا أستطيع أن أمحو تلك الذكرى المؤلمة من مخيلتي”.
تكمل أم أمجد حديثها بصوت يمتزج بالبكاء: “لم تكن مصيبتي باستشهاد زوجي فقط، بل تعدت ذلك بتخلي أهل زوجي عني بعد استشهاده، وقاموا بطردي مع أطفالي من منزلنا الذي بنيناه سوية أنا وزوجي، كما حرموني من بستان يحتوي على أشجار الزيتون كان يمتلكه زوجي، فلجأت إلى أهلي وبما أن حالتهم المادية ضعيفة فكرت بعمل يكفيني مع أولادي”.
على الرغم من القهر والألم الذي خلّفه استشهاد زوجها فقد قررت الصمود من أجل العناية بأطفالها الصغار وتقول: “كان يوم استشهاد زوجي أقسى يوم في حياتي وقد شكل لي صدمة كبيرة، وبعد أن أفقت من صدمتي، تذكرت أولادي وأنهم ما زالوا صغاراً وهم بحاجة لمن يرعاهم، عندها أخفيت حزني بين أضلعي، فيجب عليّ ألّا أدع أولادي يواجهون مصاعب الحياة بمفردهم، فقد أصبحت الأب والأم لهم، وهم ما بقي لي في هذه الدنيا، وبما أنني أتقن مهنة الخياطة، قررت شراء ماكينة لخياطة الملابس، وأصبحت أخيط الفساتين للنساء والفتيات الصغيرات، وعشت من مردود الخياطة مع أولادي عيشة مستورة والحمد لله، فأنا أخيط الفستان للمرأة ب1500 ليرة سورية أي دولار واحد وللطفلة ب750 ليرة، وأتمكن من خياطة ثلاث قطع إلى أربع في اليوم”.
مهنة الخياطة من المهن الشائعة بين النساء السوريات منذ القديم وحتى يومنا هذا، فكانت كل امرأة لا تجد مورداً تعيش منه مع أسرتها تتخذ منها عملاً لها، وخاصة النساء اللواتي لا يجد أزواجهن عملاً أو النسوة اللواتي ليس لهن معيل.
وتفضل ميس (35 عاماً) خياطة فساتينها عند أم أمجد بسبب إتقانها للخياطة، وتقول: “أنا أخيط ملابسي وملابس بناتي هنا عند أم أمجد فهي تتقن الخياطة بشكل ممتاز، بالإضافة لذلك هي امرأة متسامحة وتأخذ مبلغاً معقولاً مقابل خياطة الملابس، فأسعار الملابس الجاهزة مرتفع جداً وأنا لا يمكنني شراؤها.
وعن الصعوبات التي تواجهها في الخياطة على الماكينة اليدوية تقول: “عندما كنا في مدينتنا كنت أخيط الملابس على ماكينتي، حيث كانت تعمل على الكهرباء المستقاة من الطاقة الشمسية، أما هنا أعمل يدوياً بسبب عدم توفر معدات التوليد والتي بقيت في كفرنبل، فتستغرق الخياطة وقتاً أطول وتتطلب جهداً مضاعفاً”.
وتتحدث أم أمجد عن التحديات قائلة: “في بداية سكني هنا في المخيم لم أكن معروفة، لذلك لم يكن لدي إلا عدداً قليلاً من الزبونات، فقمت بشراء بعض الأقمشة وخطت فساتين نسائية وللأطفال، ورحت أعرض عملي على القريبات والجارات، وأعجبن بعملي فأصبح لدي العديد من الزبونات والحمد لله”.
بينما تحرص عليا (27 عاما) على خياطة فساتينها عند أم أمجد لأنها تجد لديها القماش الذي تريده، وتحدثنا عن ذلك قائلة: “أنا لا أخيط فساتيني إلا عند أم أمجد، لأنني أجد القماش الذي أريده عندها فلا أضطر للذهاب إلى السوق لشرائه، وأيضاً تساعدني في اختيار الموديل الذي يناسبني، فهي امرأة ذات ذوق رائع”.
دخلت امرأة يبدو أنها في الستين من عمرها عرفنا أنها والدتها، وداخلتنا الحديث قائلة: “أنا أفتخر بابنتي كثيراً، فقد تمكنت من تربية أولادها والعناية بهم دون الحاجة إلى أحد، وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي مرت عليها لم تتخلى عنهم”.
صوت شاب ينادي والدته فأجابت أم أمجد أدخل يا فلذة كبدي وقالت: “إنه ولدي البكر أمجد عمره 15 عاماً”، ابتسم أمجد لكلام والدته وقال: “أمي امرأة عظيمة ضحت بزهرة شبابها من أجلنا، أتمنى أن أتمكن من تعويضها عن كل الألم والقهر الذي ذاقته طيلة هذه السنوات”.
كانت أم أمجد تستمع لكلام ولدها وقد بدت الفرحة على ملامح وجهها “كلامك هذا يا ولدي بمثابة تعويض لي عن تعب كل تلك السنين”.
على المرأة أن تواجه مصاعب الحياة بإرادة قوية وصلبة وخصوصاً تلك التي فقدت زوجها وأصبحت المعيلة لأولادها، فلا تتخلى عنهم مهما مرت عليها ظروف قاسية”، تختتم أم أمجد حديثها.
جل ما تتمنى أم أمجد أن تعود إلى مدينتها كفرنبل التي لها فيها الكثير من الذكريات الجميلة مع زوجها، وأن يعم السلام بلادها الحبيبة سورية.
إعداد: كادر موقع فرش أونلاين