نار الحطب كانت نوراً لي ولأطفالي
أبلغ من العمرِ خمسةً وثلاثينَ عاماً، متزوجة رزقني الله بطفلينِ جميلين، هما سبب حياتي الرئيسي، أعيش مع عائلتي الصغيرة بغرفةٍ صغيرةٍ بمدينة كفرنبل.
قبلَ اندلاع الثورة السورية، كان زوجي يعمل في “الأشغال الحرة”، فيكدُّ ويتعب طول النهار كي يؤمّن حوائجَ البيتِ الأساسية لي ولأطفالنا، مع بدايةِ الثورة بدأ عملُ زوجي يتلاشى شيءً فشيءً، حتى أنه بات يعمل يوماً أو يومينِ في الأسبوع، مع الوقت الذي قلَّ فيه العمل ازدادت أسعارُ الموادِ الأساسية وتضاعفت عدة مرات، حيث أننا لم نمتلك نقوداً نشتري بها خبزاً نُشبِعُ فيه بطون طفلينا الجائعين، أو نغلق فيه فمَ صاحب الغرفة الذي بات يطالب بآجارها كثيراً بعد أن ضاعفه وهوَ يعلمُ بضيق حالنا وفقرها.
في معظم الأيام التي يخرج فيها زوجي للعمل، تأتي طائرات الأسد فتقصف وتدمر في المدينة فيجبر زوجي على العودة للمنزل خاليَ اليدين مكسور القلب، كان يعود خوفاً علينا من الموت تحت قصف الطائرات المجرمة.
وفي فصلِ الشتاء كنت أخرج مع زوجي لجمعِ بقايا الحطب من مراكز بيعه في المدينة كي نستطيع أن ندفئ أناملَ طفلينا الصغيرين في البرد القارص، لطالما كان الجار في عون الجار فكان الجيران يحضرون لنا ما يستطيعون من أكل وعيدان للتدفئة لعلمهم بحالنا.
كانت المدفأة هي مصدرُ الإنارة الوحيد داخل غرفتنا المظلمة، لم يكن زوجي قادراً على تحملِ مصاريف الاشتراك الكهربائي.
مع قدومِ فصل الربيع الذي كان يمثل عيداً نحتفلُ به أنا وزوجي لما يحمله من دفئٍ طبيعي، أملنا في ذلك الوقت أن يحصل زوجي على عملٍ يملأ من أجرته بطون عائلته الفارغة، بحث كثيراً داخل المدينة وخارجها لكنه لم يجد شيءً إلافي موسمِ قطافِ الزيتون، وفي صباح كل يوم من الموسم كنت أخرج معه لقطف الزيتون بالأجرة، وكان يعمل ليلاً في تكسير الزيتون للأهالي والجيران.
بعدِ انتهاء موسم القطاف بدأت حالتنا تضيق وتتراجع، وكان زوجي رغم ضيق حاله يستمر بقول “إن الله الذي خلقني وزوجني لن ينساني ولن يبقي بطون أولادي فارغة”، إلى أن رزقه الله بعملٍ في نجارة الخشب.
بدأ زوجي يزاول عمله وبدأت حالتنا تتحسن وتتبدل، والسرور والبهجة تتوسع في قلبي ومنزلي، لم نكد نشعر بشي منها حتى أتى يوم غابت الشمس فيه وزوجي لم يعد إلى المنزل، بدأ الشعور بالقلق ينتابني حتى أتت سيارة بلونٍ أسود حمل سائقها خبراً أسود بأن زوجي قد تعرَّض لحادث أثناء عمله وتم نقله لإحدى المشافي.
بدأت نار الخوف من المجهول تلتهم جوفي، وخرجت عيناي عن سيطرتي، فالدمع كان قد انهمل ولم أستطع إيقافه.
بعد أن عدت إلى رشدي، ذهبت للمشفى كي أرى زوجي العزيز مستلقياً على سريره الأبيض مكسور الساق والخاطر، قال لي كيف سأطعم أطفالنا الآن وأنا بحالي هذه، كان سماعي لكلماته بمثابة رصاصة تخترق قلبي دون أن أستطيع التألم بصوت مسموع، لم أستطع إلا أن أقول بابتسامةٍ مصطنعة لنا ربٌ لا ينسانا أليس كذلك.
خرج زوجي بعد عدة أيام من مكوثه في المشفى، ليعود إلى الغرفة الصغيرة المظلمة محملاً مكسورَ القلب والخاطر، نائم على السرير أطفاله بلا طعام وجرحه بلا دواء.
لكن الله لم ينسانا فمع كل جار أو قريب من أقرباءنا كان يزور زوجي، يترك لنا بعضاً من المال أو العلاج نستدرك به أنفسنا.