الحياة سرقت مني أغلى ما أملك
قاسية هي الحياة عندما تسرق منك أغلى ابتسامة وأجمل فَرحة، وأروعِ قلب فتكره حياتك، وتتمنى الموت في كل لحظة، وتنقلب الدنيا على رأسك، وتصبح الآلام والأحزان لصيقة بحياتك في كل مراحِلها ولحظاتها بما في ذلك ساعات الفَرح، فعندما تبكي لا يسمعك أحد، وتصبح الوحدة رفيقةَ دربك، والمرارة أعز أصدقائك.
ابتسام فتاة وحيدة لخمسة أخوة ذكور، عاشت في عائلة فقيرة جداً، سجن والدها في الثمانينيات، وهي كانت ما تزال طفلة صغيرة، بسجن والدها فقدت ابتسام العمود الذي كان يسندها وفقدت معه الحنان وبهجة الحياة.
وفي سن السابعة عشرة من عمرها تقدم لخطبة ابتسام شاب من مدينتها، وقد اضطرت ابتسام للموافقة من أجل تخفيف بعض أعباء المصروف عن والدتها وإخوتها، وبعد الزواج ذهبت للعيش مع زوجها في مدينة حلب حيث كان يعمل.
وعلى الرغم من أن حالة زوجها المادية كانت ضعيفة إلاّ أنها كانت سعيدة جداً معه فقد كان نعم الزوج والرفيق وقد رزقهما الله بثلاثة أطفال ولدين وبنت، كانت ضحكات الأطفال ولعبهم في المنزل تزيد المنزل بهجة.
وكانت ابتسام معتادة كل صباح أن تتناول القهوة مع زوجها قبل خروجه إلى عمله، وككل صباح أعدت القهوة واحتسياها معاً وودعها كعادته وودع الأطفال، وانطلق بابتسامة جميلة إلى عمله.
وعند الظهيرة حيث موعد عودة زوجها من عمله انتظرته عند النافذة المطلة على الشارع الذي يأتي منه كل يوم، ولكن طال انتظارها واشتعلت النيران في قلبها فليس من عادته أن يتأخر عن المنزل وراحت الهواجس البشعة تنتابها، هل من الممكن أن يكون قد حدث له مكروه، وبينما هي على هذه الحال من القلق رن جرس المنزل، تسمرت ابتسام في مكانها، وكأن شيئاً ما يلصق قدميها بالأرض، ففتح ولدها الكبير الباب وإذ بالجيران يتوافدون إلى المنزل.
كانت تنظر إليهم مستغربة اجتماعهم في منزلها، إلى أن قالت إحدى الجارات إن لله وإن إليه راجعون، اصبري يا أم عمار، نزل كلامها كالصاعقة على مسامع ابتسام، وقصم ظهرها عرفت بأن زوجها قد توفي، أثناء قيامه بمداهمة لعددٍ من اللصوص في مدينة حلب، حيث كان يعمل في سلك الأمن الداخلي آنذاك.
هنا أصبحت في مرحلة اللاوعي وأخذت تسترجع كل لحظات حياتها الجميلة معه غير مصدقة بأنها قد فقدته إلى الأبد.
انهمرت الدموع من عينيها دون توقف، وضاع الكلام منها ولم تتكلم بأي كلمة، بفقده فقدت السند والأهل والمعين والرفيق، وكانت تردد دائماً فقدَ المنزل عموده الذي كان يمده بالقوة والحنان.
أصبحت ابتسام بلا معيل وهي تمتلك ثلاثة أطفال صغاراً جداً ويحتاجون للرعاية، خبأت حزنها بداخلها وقررت أن تعيش من أجل أطفالها، ودرست الثانوية العامة من أجل إعالة أطفالها الصغار وبالفعل تمكنت من الحصول على الشهادة، وصارت تُدرس في المدرسة وتمكنت من إعالتهم وبناء منزل متواضع تعيش فيه معهم.
كبر الأطفال وأصبحوا شباباً وربتهم أحسن تربية على الأخلاق النبيلة والاحترام كانت ترى الدنيا من خلالهم، وكانت تحلم باليوم الذي تفرح بهم، وزفت ابنتها الوحيدة عروساً جميلة، وذهب ولدها الكبير للجيش وكانت دائمة التحدث عنه وعندما تذكره تُشاهد بريق الفرحة في عينيها، وكانت تنتظر عودته بفارغ الصبر.
ولكن وكما يقول المثل «تجري الرياح بما لا تشتهي السفن» ففي يوم أسود كسواد ليلة غاب عنها قمرها، صعقت بخبر وفاته بصعقة كهربائية هنا لم يعد لديها الطاقة للتحمل انهارت قواها فقد ذهب الأمل الذي عاشت لأجله كل هذه السنين، مات عمار ومات قلب والدته معه، أصبحت الحياة بالنسبة لها مظلمة سوداء ولم تعد تميز بين ليلها ونهارها، فالمصائب كثيرة وكبيرة.
ولم تتوقف المصائب بموت أعز الناس بالنسبة لأم عمار، فبعد قيام الثورة السورية استهدفت طائرة مروحية منزلها الذي بنته بعرق جبينها فجعلته قاعاً صفصفاً وكأنه لم يكن في هذا المكان منزل، وكأن المصائب تلاحقها طوال عمرها.
أصبحت ابتسام وولدها الأصغر بلا مأوى، حزنت ابتسام كثيراً ولكنها كانت تقول إن فقداني لمنزلي ليس أقسى من فقداني لزوجي وولدي مهجة قلبي.
وبعد أن أصبحت ابتسام بلا منزل هي وولدها، ومع موجة النزوح التي حدثت بسبب قصف الطيران للمدينة بشكل هيستيري اضطرت ابتسام للنزوح مع أخيها وعائلته إلى بلدة كفر تخاريم.
هكذا تحدثت ابتسام عن حياتها والدموع تتساقط من عينيها كأنها حبات المطر الغزير.
ابتسام مثلها مثل أي أم كانت تحلم بتكوين عائلة سعيدة، ولكن الظروف لم تسمح لها.
(وفاء المحمد)