ليلةٌ واحدةٌ حالكة السواد حطمت أحلامنا وزادت حالنا سوءاً
في مرحلة من مراحل الحياة كل أحلامك ستدمر إذا لم يكن مقدراً لك أن تحققها، ليلةٌ واحدة كانت كفيلة بتدمير جلَ أحلامي وأحلام زوجي، فمن حسب أن ترك بلده وأهله أمر بسيط فهو مخطئ.
ثمان سنوات انقضت من عمر الثورة ولم أجد أصعب من تلك الأيام عندما بدأ القصف الهمجي على ريف إدلب الجنوبي، وكانت بلدتي من أكثر البلدات تعرضاً للقصف في المنطقة، وبسبب شدة القصف وانتشار الموت والقتل انعدمت فرص العمل والعيش، فلم يجد زوجي عملاً لتأمين مصاريف المنزل رغم صغر عائلتنا فنحن نمتلك طفلاً واحداً وأنا حامل بطفلة أخرى، فقرر زوجي الهجرة إلى تركيا بحثاً عن حياة أفضل يوفرها لعائلته، وفي أحد الأيام قال لي زوجي غداً سوف نذهب إلى دركوش للتهريب عن طريق أحد المهربين فنحن لا نملك المال للخروج عن طريق المعبر، وجاءت تلك اللحظة الصعبة لحظة الوداع وداع الأهل والبلدة كأن المرء يترك بضعاً من نفسه ويدفنه تحت زيتونة المنزل، ودعت أمي والنار بقلبي تشتعل على فراقها، ظننت أني لن أراها بعد ذلك.
ذهبنا باتجاه دركوش وعند وصولنا، أخبرنا المهرب أننا سوف ننطلق بعد أذان المغرب، حتى تكون ظلمة الليل قد طغت على العيون ونتمكن من التسلل دون لفت أنظار عساكر الجيش التركي (الجندرما)، وبعد تواري الشمس عن الأنظار وغيابها أخذنا المهرب بسيارته مع مجموعة من الناس ونزلنا في منطقة جبلية قريبة من الحدود التركية، بدأنا السير على الأقدام كان الطريق شاق ومتعب جداً حيث أني بالأشهر الاخيرة من الحمل، وزوجي يحمل ابني الصغير وبعض الملابس، تسلقنا الجبل وكأنه لا ينتهي ولا نهاية له أو قمة، وبعد بضعة ساعات وعناء كبير تمكنا من الصعود إلى قمت ذلك الجبل المهيب، وبدون سابق إنذار وبلا تحذيرات مسبقة، بدأ العساكر الأتراك إطلاق النار علينا بشكل عشوائي وكثيف وبدورنا بدأنا الجري والركض باتجاه العودة رغم ظلمة المكان وقسوة الطريف نزولاً من أعلى الجبل وما كان منا إلا العودة لمنزل المهرب.
في اليوم التالي أخبرنا المهرب عن وجود طريق أسهل وهو قطع نهر العاصي علماً أن الحدود في ذلك المكان كانت ضفةً للأراضي السورية والضفة الأخرى للأراضي التركية وسوف نذهب إليه بعد العصر، وعندما وصلنا إلى النهر كان منظره مخنق حاولت اقناع زوجي بالعودة لكنه رفض وقال لي “لا تخافي ما دمنا معاً، إنها المحاولة الأخيرة وإن لم نستطع العبور سنعودُ أدراجنا”، كلمات مليئة بالطمأنينة لكن شيئاً ما في قلبي كان يمنعني من تصديقها أو الإيمان بها، ثم قطعنا النهر عن طريق الطوافة إلى الضفة الثانية مع عائلتين وبدأنا المسير وعندما وصلنا إلى أحد الأراضي الزراعية شاهدنا أحد العساكر، صرخ بنا وكان يتكلم باللغة التركية فلم نفهم ما يقول وهجمت الكلاب الشرسة علينا وأفزع نباحها الأطفال الصغار وتعرض زوجي للعض من أحدها لم يستطع أن يتخلص من فكي الكلب إلا وكانت الدورية التركية فوق رأسي ورأس زوجي ومن معنا، ثم تم نقلنا بسيارة إلى أحد النقاط التركية، بتنا ليلتنا هناك كانت معاملتهم سيئة مع الرجال كانوا يضربوهم ويتلفظون بالشتائم وأجبروهم على جمع النفايات من حولهم، وأجبروا زوجي على العمل وضربوه رغم علمهم بأنه تعرض للعض من أحد كلابهم العمياء.
كانت ليلة سوداء فقد تحطمت جميع أحلامنا في تلك الليلة التعيسة وفي اليوم التالي أخذونا إلى المعبر، فقررنا العودة انا وزوجي المصاب إلى البلدة الخالية من أهلها، مقتنعين بما قسمه الله لنا لأن هذه الإهانة وهذا الذل يعادل مال الدنيا بأسره، ولو لم نكن مجبرين على ترك منازلنا لما خرجنا وأرجو من الله أن يجعل الفرج قريب وينتقم من كل شخص استغل النازحين المهجرين قسراً وظلماً من بيوتهم.
أمل الأحمد