حلم الصغر الذي تحقق
أوراق مبعثرة هنا وأقلام متناثرة في أرجاء الغرفة وفنجان قهوة هنا وكأس شاي هناك، وخزانة مليئة بالكتب الصغيرة والكبيرة مستندة إلى الجدار، في وسط هذه الأشياء تجلس امرأة يظهر عليها الهدوء والوقار.
هكذا وصفت مروة المحمد (35 عاماً) حياتها اليومية، وحبها للقراءة منذ الصغر وشغفها بها.
تقول المحمد: “من نعومة أظافري وأنا أحب الكتب، ولدي فضول لاكتشاف ما يحتويه كل كتاب أصدفه في طريقي، كبرت وكبرت معي هذه المحبة، كما أعشق مهنة التدريس كثيراً وكنت أتمنى أن أصبح معلمة، وبالفعل حصلت على الشهادة الثانوية وأصبحت أدرس في المدرسة، محبتي لمهنتي وللأطفال كبيرة جداً جداً”.
لم تتوقف مروة عن الدراسة، فبعد بضع سنوات من التدريس لم يتوقف طموحها عند حدود الشهادة الثانوية فقررت وبتشجيع من والدها أن تتقدم لامتحان الشهادة الثانوية مرة أخرى.
تتابع المحمد سرد قصتها بحماس: “كنت في الصباح أعمل معلمة وفي الليل أدرس من أجل الامتحان، ورفيقي كتابي وفنجان قهوتي، وبالفعل حققت طموحي ونجحت بالشهادة الثانوية وبمجموع يؤهلني لدخول فرع الجامعة الذي لطالما أحببته وحلمت به.
صمتت مروة وكفّت عن الكلام ولم تقل ما هو الفرع الجامعي الذي دخلته، وبعد سؤالها عنه، أجابت بابتسامة وفخر “دخلتُ فرع اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة حلب، كانت فرحتي لا توصف عندما تمكنت من دخول هذا الفرع المحبب إليّ، ولكن”.
أطرقت مروة برأسها أرضاً وبدت حزينة “فرحتي لم تكتمل فقد كان قبولي في الجامعة قبل قيام الثورة في بلدنا سوريا بسنة، فدرست السنة الأولى والثانية بجد وفرح، وعندما أصبحت بالسنة الثالثة ازداد التضييق على الطلاب وملاحقة أي شخص يُشك في فكره الثوري، ورغم ذلك قررت ألاّ أستسلم وأدع حلمي يتلاشى أمام عينيّ، فتقدمت لامتحان السنة الثالثة بصعوبة بالغة والحمد الله تمكنت من الترفع إلى السنة الرابعة”.
خيّم السكون على الغرفة بعد كلامها هذا وقطع ذلك السكون والدة مروة بثوبها الريفي، حاملة بين يديها صينية تحتوي على فناجين قهوة رائحتها لذيذة، تابعت مروة “تمكنت من تقديم مواد الفصل الأول جميعها، وكان والدي يرافقني إلى الجامعة خوفاً عليّ، وعندما حل الفصل الثاني ازدادت الأوضاع سوءاً، فتقدمت للمواد بين الخوف والرعب والحمد لله نجحت بتلك المواد، وبقيت مادة واحدة حائلاّ بيني وبين تخرجي من الجامعة، فوالدي لم يعد يسمح لي بالذهاب إلى الجامعة بسبب الأوضاع”.
وكيف حصلت على الشهادة الجامعية؟ “كنت أرجو أن يسمح لي والدي بالذهاب لإكمال حلمي وكان يرفض وحجته خوفاً عليّ من القتل، فقلت له الموت عندي أفضل من عدم تحقيق حلمي”.
صوت قرقعة مصطنع من قبل شخص ما في الخارج، “مروة يا ابنتي”، تفضل يا أبي وغيرت جلستها ومسحت جبينها، دخل رجل بلحية بيضاء وشعر رأسٍ مشتعل الشيب، “أكيد مروة عمتحكيلكن عن بطولاتها بالجامعة؟” يسأل الأب، وحبذا لو تحكي لهم يا أبي.
يقول الأب “بعد شد وجذب وافقتُ على مضض، إرسالها إلى الجامعة وكل ذلك من خوفي عليها، ولولا الأحداث لشجعتها على إكمال الدراسات العليا”.
كان بريق الفرح يشع من عينيّ مروة وهي تستمع لوالدها وهو يتحدث عن التخرج ونجاحها بتلك المادة.
ويضيف الأب “ابنتي ذات إرادة قوية وصلبة فقد تمكنت من تحقيق حلمها رغم كل الظروف والمعوقات التي مرت بها، وأنا أفتخر بها كثيراً”.
حققت حلمها في زمن تصعب فيه الدراسة الجامعية ويصبح التخرج حلماً بالنسبة للشباب (ذكوراً وإناثاً).
كانت والدة مروة تحدق بنا وتستمع لما نقوله مبتسمة، داخلت في الحديث “ابنتي مروة رائعة جداً وأنا أحبها كثيراً وأحب فيها تحديها للظروف وعدم استسلامها أمام الصعوبات”.
ختمت مروة: التدريس أصبح خطراً هذه الأيام، فالقصف يتركز على التجمعات وخاصة المدارس والأسواق وربما أموت وأنا في المدرسة ولكن لن أتوقف، فالموت أهون عندي من جهل الأجيال القادمة.
إعداد: وفاء المحمد