أم محمد تتابع التجارة من خيمة صغيرة
بعض الألبسة النسائية والعديد من ملابس الأطفال تتقاسم جداراً من النايلون والقماش، وفي زاوية أخرى توضع أدوات تنظيف منزلي، وعلى طاولة حديدية ترتصف اسفنجتان مع غطاءين ووسائد نوم وفوقها ورقة من دفتر رسم كتب عليها “الرجاء ممنوع الدين”، وتقف بجانبها امرأتان مشغولتان بوضع قطع من الملابس في أكياس.
“تفضلوا، أشو طلبكن؟”. هكذا استقبلتنا إحدى المرأتين ويبدو على وجهها آثار التعب بعد أن انتهت من بيع إحدى زبوناتها وتعرف عن نفسها بأنها أم محمد (37 عاماً).
وأم محمد هي نازحة من بلدة حاس في ريف إدلب الجنوبي إلى مخيم الضياء الثاني في بلدة سرمدا بريف إدلب الشمالي منذ شهر أيار 2019 نتيجة تعرض البلدة إلى قصف كثيف من طائرات ومدافع بشار الأسد وحليفته روسيا في إطار حملتهم على محافظة إدلب، وخاصة على ريف إدلب الجنوبي، ما أدى إلى استشهاد مئات المدنيين ونزوح نحو نصف مليون إنسان من هذا الريف إلى مناطق أخرى، وخاصة إلى ريف إدلب الشمالي.
وتخضع محافظة إدلب لسيطرة حكومة الإنقاذ المعارضة لنظام بشار الأسد ويتجاوز سكانها ثلاثة ملايين نسمة.
ونقلت أم محمد محلها لبيع الألبسة والمنظفات إلى المخيم، وهي معيلة لثلاثة أطفال: محمد 1٥ سنة، وفاطمة 10 سنوات وأحمد 7 سنوات، وزوجها متوفى منذ ست سنوات.
ويضم مخيم الضياء الثاني في سرمدا نحو 500 أسرة ويتلقى دعماً من عدة منظمات ويعاني من مشاكل في التعليم والصرف الصحي وشق الطرقات.
وتشرح أم محمد أسباب نزوحها وتقول: “ذات يوم وبينما كنت أعد وجبة الإفطار لأطفالي بدأ القصف الصاروخي على القرية ليقترب من منزلي أكثر فأكثر، إلى أن أصابه أحد الصواريخ”.
وتضيف: “كان مثل يوم القيامة، انفجارات كثيرة والجو مغبر، بدأت بالصراخ لأني لم أعد أرى أولادي، وبعد لحظات وجدت الصغير مختبئاً تحت حرام من خوفه معتقداً أنه سيحميه من الموت، ثم خرجنا إلى أحد الملاجئ المجاورة”.
تتذكر أم محمد ذلك اليوم وتقول: “بعدما راح البيت والمحل أصبحت مع أولادي هنا في خيمة صغيرة تقدر مساحتها بـ 16 متراً مربعاً، واستأجرتُ عاملاً ليقوم ببناء أساس لكي أرفع الخيمة عن الشارع، وصبينا الأرض وأصبحت مقبولة نوعا ما”.
وفي بداية النزوح وضعت أم محمد ما تبقى من المحل في الخيمة بعد أن تلف قسم كبير بسبب القصف، إلى أن استطاعت شراء كمية أخرى من البضاعة بما كانت قد وفرته خلال السنين السابقة، وتقول: “كنت قد وفرت مبلغاً من المال للأيام الصعبة من أجل أن اشتري مازوتاً للشتوية لأن الشتاء على الأبواب، لكني وجدت نفسي مجبرة على شراء بضاعة جديدة بما وفرته من مال من أجل أن أتابع عملي”.
تثني الحاجة فاطمة (75 عاماً) وهي والدة أم محمد على ابنتها وتقول: “والله يا بنتي منذ أن توفي زوجها هي التي تقوم بتربية أولادها وتشتغل، كان عندها محل في القرية شراكة بينها وبين جارتها ثم انفصلتا وفتحت كل منهما محلاً لوحدها”.
كانت أم محمد في البداية هي الوحيدة التي فتحت محلاً لبيع الألبسة في ظل قساوة العيش وقلة مياه الشرب في المخيم، ولكن بعد فترة من الزمن وبعد زيادة عدد النازحين إلى المخيم زادت المحلات. وتشكو أم محمد قساوة العيش في المخيم وتقول: “العيش هنا صعب جداً، لا يوجد لدي خزان لمياه الشرب، لدي برميل فقط يكاد يكفي لليوم التالي حتى يأتي الصهريج، وأنا أحتاج كثيراً من المياه لأن الجو هنا مغبر جداً ولكن حتى الآن لم أجد حلاً آخر”.
وبحسب أم أحمد (٤٠ عاماً) وهي إحدى زبونات أم محمد، فإن غالبية نساء المخيم يقمن بشراء أدوات التنظيف من عند أم محمد، وتقول أم أحمد: “أنا أشتري كل ما يلزمني من عند أم محمد لأنها امرأة مجدة وتربي أطفالاً ولديها مسؤوليات ولأنها تبيع بسعر مقبول وترضى بمربح قليل”.
تحلم أم محمد بإنشاء محل كبير لبيع الملابس وذلك لتأمين مستقبل أولادها من أرباحه وتقول: “كل يوم أربح من المحل هذا من ألف إلى أربعة آلاف ليرة سورية وأوفر منها ما استطعت لأوسع محلي أكثر ويزيد ربحي أكثر لأن مصروف الأولاد سيكبر عندما يكبرون”.
تلك المسؤوليات والظروف الصعبة التي تعيشها أم محمد لم تثنها عن الكد والتعب، أولاً لتربية أولادها، وثانياً لتحقيق حلمها الذي لم تستطع غبار المخيم أن تنسيها إياه، وهي تختم الحديث معنا قائلة: “الحياة صعبة ومهما كانت الظروف سنعيشها، فلنكن أقوى منها ونسعى دائماً غرباً وشرقاً”.
إيناس المحمد