سهام تدرس وتساعد والدها في البالة
مجموعة من رفوف خشبية عليها أحذية مستعملة أوربية (بالة) مصفوفة بحسب القياسات منها نسائية ومنها رجالية وولادية، وأكوام من الألبسة المتنوعة والمصنفة حسب القياسات وتناسب جميع الأعمار، كل ذلك تواجد في دكان صغير وعلى الرصيف المحاذي له قرب مركز الرعاية الصحية في مدينة إعزاز البالغ تعداد سكانها نحو 90 ألف نسمة والخاضعة لسيطرة الفصائل الثورية والواقعة في ريف حلب الشمالي على الحدود مع تركيا.
وتبيع في ذلك الدكان طفلة يتيمة الأم في الثالثة عشرة من عمرها اسمها سهام نزحت مع والدها وأختها وجدتها وآخرين من مدينة دوما في الغوطة الشرقية في شهر نيسان من عام 2018 بناء على اتفاق بين فصيل “جيش الإسلام” وروسيا.
واستشهدت والدة سهام في غارة لطيران النظام على المدنيين في دوما قبل نزوحهم بشهر واحد.
ويكنى والدها بأبي أحمد (40 عاماً) وهو مريض ومعتقل سابق لدى النظام لمدة سنتين (بين عامي 2012 و2014) بسبب المشاركة في مظاهرات الحرية والكرامة ضد النظام.
وتشهد مدينة إعزاز انتشاراً واسعاً لمحلات البالة وسط إقبال ملحوظ من قبل الأهالي عليها نظراً لانخفاض أسعارها مقارنة مع أسعار الألبسة الجديدة.
وتدخل الملابس المستعملة إلى إعزاز عن طريق تركيا أو من مناطق قريبة مثل اخترين ومنبج وجرابلس.
وبسبب ارتفاع أسعار الملابس الشتوية هذا العام مقارنة مع العام الماضي أقبلت شرائح واسعة من سكان المناطق المحررة على شراء الملابس المستعملة كونها الأرخص.
وبعد أن انتهت سهام من بيع إحدى الزبونات حدثتني عن معاناتها التي واجهتها وبريق الأمل كان يشع من عينيها وكأنها لم تكترث لما حل بها هي وأهلها محاولة أن توضح لي أنها صابرة رغم ما مرّ عليها من مصاعب، وقالت:
“استشهدت أمي عندما كانت على شرفة المنزل بينما كنت أنا وأختي في غرفتنا، غبار كثيف كان قد ملأ المكان وبت غير قادرة على رؤية ما حولي، بدأت أصرخ ولكن فقط صوت بكاء أختي الصغيرة كنت قد سمعته آنذاك، حاولت الذهاب إلى شرفة المنزل ولكني لم أستطع إلا بعد نصف ساعة تقريباً لأجد يد أمي وجزء من رأسها واضحاً وبقية جسدها قد أخفاه السقف، فطائرة الغدر سرقت مني أمي لأصبح يتيمة أنا وأختي، ولم نستطع الخروج من البلدة بسبب محاصرة قوات الأسد للغوطة الشرقية”.
حاولت سهام إخفاء دموعها ولكنها لم تستطع وتابعت: “اضطررت أن أعمل مع والدي فهو لا يقوى على عمل آخر بسبب ضعف حركة يديه فلديه مشكلة في الأعصاب، فأنا أساعد أبي في المحل وفي الوقت نفسه أتابع دراستي”.
وترى معلمتها سلام (30 عاماً) أن مستقبل سهام سيكون زاهراً وتصفها بأنها “طالبة مجدة ونشيطة تتحمل كثيراً مقارنة بالفتيات الأخريات، وأنا أحبها كثيراً وأعطف عليها كونها طفلة يتيمة”.
ومن الصعوبات التي تواجه والد سهام (أبو أحمد) في شحن بضاعته ارتفاع سعر المحروقات وخصوصاً المازوت مما أثر بشكل كبير على أجرة النقل، ويقول: “أنا أستلم البضاعة من معبر باب السلامة مباشرة وعبر سيارة أجرة أنقلها إلى الدكان حيث تكون موضوعة في أكياس كبيرة مرصوصة وآخذة شكل المكعب، وأجد الآن صعوبة في دفع أجرة السيارة بسبب غلائها فسعر لتر المازوت أصبح بـ 500 ليرة سورية مقارنة بسعره سابقاً، حيث كان بـ 350 ليرة سورية مما يؤثر سلباً على مربحي من البضاعة التي أبيعها”.
بدورها أرادت سهام أن تنقل إليّ صورة بأنها تريد تشجيع أباها على مواصلة عمله قائلة: “إنني أحاول ألا أقف عاجزة أمام أبي فقد قمت بإخبار صديقاتي عن مكان دكاننا وحدثتهن وأوضحت لهن بأنهن سيجدن كل ما يلزمهن من الألبسة الشتوية التي ستنال إعجابهن قاصدة زيادة الشهرة لدكاننا لعل زيادة شراء البضاعة تمكننا من زيادة أرباحنا، فهذا الدكان مصدر عيشنا”.
وتقول عائشة المحمد (13عاماً) وهي صديقة سهام: “كانت أمي تفضل الألبسة الجديدة أكثر، ولكن كوننا نازحين ولا يوجد لدينا دخل كافٍ فضلت أمي شراء الألبسة الأوربية (البالة) لنا، وهي تجد كل ما يناسبني أنا وإخوتي من ألبسة زاهية الألوان”.
أما صديقتها حلا اليوسف (14عاماً) فتقول: “كثيراً ما أجد طلبي عند والد سهام وبمقاسات مناسبة، والشيء الذي جعلني أشتري هو أنني أستطيع تبديل أي قطعة لا تلائم مقاسي”.
ويقول أبو سامر (28عاماً) إنه يرغب بالشراء من عند أبي أحمد لأن بضاعته أرخص من محلات البالة الأخرى الموجودة في مدينة إعزاز، ويجد ما يلزمه من الملبوسات التي يختارها دائماً.
وتقول أم محمد إنها وجدت ما يلزمها من جواكيت شتوية لأطفالها في المحل ونالت إعجابها. وتتذكر سهام أيام حصار وقصف النظام وروسيا مدينتها دوما وتقول: “صدى قوة أصوات القصف الهمجي ما زال في مسمعي، وصورة أمي وهي ملقاة على الأرض وسقف منزلنا عليها لا يغيب عن نظري لحظة”.