إسراء معلمة تقيم دوراتٍ تعليمية لتلاميذها المٌهَجرين بالمجان
منزل مؤلف من غرفتين، تجلس وسط إحداها امرأة وحولها ثلاثة أطفال، أحدهم يحمل كتاباً والآخر يحمل دفتراً وطفلة معها قطعة من الحلوى، وهناك سبورة معلقة على أحد جدران الغرفة.
إسراء (اسم مستعار) وتكنى بأم أحمد امرأة ثلاثينية العمر نازحة من مدينة كفرنبل بريف ادلب الجنوبي، نزحت في منتصف شهر أيار لعام 2019 بسبب القصف الكثيف الذي تنفذه قوات الأسد والعدوان الروسي على مدن وقرى ريف ادلب الجنوبي، وتقطن حالياً في مخيم العبد الله قريباً من بلدة قاح بريف ادلب الشمالي.
وقد أقيم مخيم العبد الله الذي تقطن فيه أم أحمد مع عائلتها منذ شهر أيار وذلك بالتزامن مع بدء الحملة العسكرية، ويقطن المخيم نازحون من مدينة كفرنبل وبلدة حاس، ويحتوي المخيم على حوالي 400عائلة نازحة، وقد أشرف على بناء الكتل السكنية فيه، متعهدون من بلدة حاس، حيث تم بناء المخيم من البلوك والإسمنت.
تقول أم أحمد: “غادرنا مدينتنا تاركين فيها ذكرياتنا، وأملاكنا ومصادر معيشتنا، ومع ذلك قررت ألا أدع زوجي يواجه مصاعب الحياة وحده، وعند وصولنا إلى هنا وجلوسنا بهذا المنزل الصغير، طلبت إليه أن يسمح لي بالتدريس، بحكم أنني أحمل شهادة جامعية، فهو لم يجد عملاً له، فوافق على ذلك، وبالفعل أنا الآن أعمل معلمة في مدرسة قريبة من مخيمنا تسمى أبي ذر الغفاري، وأتقاضى راتباً قدره 150 دولاراً شهرياً”.
المدرسة التي تعمل فيها إسراء عبارة عن أربع غرف مسبقة الصنع، أقيمت منذ حوالي الشهرين، لاستقبال الأطفال النازحين من مدن وقرى ريف ادلب الجنوبي الذين فروا من بطش قوات نظام الأسد وتقول:
“تقوم المدرسة المدعومة من جمعية القلوب الرحيمة باستقبال الأطفال حتى الصف الرابع، ولكن من مختلف الأعمار ممن لم يتثنى لهم فرص التعليم الجيد، وتقدم لهم كل ما يلزمهم من الدروس كي يصبحوا قادرين على القراءة والكتابة بشكل جيد”.
دخل الغرفة طفل عمره أكثر من عشر سنين قاطع كلامنا قائلاً: “ماما ما عم أعرف حل مسألة الرياضيات ساعديني”، “هذا ولدي أحمد في الصف السادس هو طالب مجد وشاطر ويحب الدراسة ولا يريد أن يتفوق عليه أحد في صفه”، تقول إسراء.
تعلل إسراء سبب إلحاحها على زوجها بالسماح لها بالتدريس رغم معارضته في السابق قائلة: “عندما كنا في مدينتنا كفرنبل كان زوجي يعمل في دكان لبيع المواد
الغذائية (السِمانة)، مثل السمنة والقهوة والبرغل وكل ما يحتاجه المنزل من حاجيات، وكنا نعيش من مردود الدكان علينا، كنت ألح على زوجي لكي يسمح لي بالعمل من أجل المساهمة في مصروف المنزل، ولكنه كان يرفض ويقول لي: “العناية بالأطفال ورعايتهم أهم عندي من عملك”، فكنت أستمع لرغبته، وأعتني بأطفالي وأساعدهم في دروسهم ووظائفهم”.
صمتت إسراء وخيّم السكون على المكان، وبدأت معالم الحزن تظهر على ملامحها، وتقول: “فقد زوجي مصدر رزقه وبقي بلا عمل، لأن دكانه تعرض لغارة طائرة حربية غادرة ألقت بصواريخها المرعبة عليه وجعلته رماداً، حزن زوجي كثيراً ليس فقط لأنه فقد الدكان، بل لأن ثمن البضاعة كان ديناً في عنقه لأحد رفاقه، هنا قرر زوجي النزوح، فلم يعد يستطيع البقاء في المدينة”.
داخلنا الحديث زوج إسراء، أبو أحمد (41 عاماً) مفتخراً بزوجته: “زوجتي أم أحمد نعم الزوجة فقد وقفت بجانبي في هذه الأوقات العصيبة، ولم تترك أعباء المنزل على عاتقي وحدي، أنا أقدرها واحترمها كثيراً”.
تبسمت إسراء لكلام زوجها قائلة: “صحيح أنني وجدت عملاً، ولكن لولا مساعدة زوجي لي بالعناية بالأطفال فترة غيابي عن المنزل، لم أكن لأستطيع الخروج من المنزل”.
قطع حديثها طرقٌ على الباب وصوت أطفال صغار بالخارج “أهلاً ومرحباً بأطفالي الصغار ادخلوا واقتربوا من المدفأة فالجو بارد في الخارج”، تقول أم أحمد لتلاميذها الذين دعتهم لدورات تقوية في منزلها ، فقد وجدت حاجتهم لذلك لأنهم لم يحظوا بفرص التعليم، فجميعهم نازحون، طلبت إلى أهاليهم إرسالهم لمنزلها كل يوم الساعة الثانية، لتعلمهم ما فاتهم من دروس سابقة وتقول: “طبعاً هذه الدروس مجانية، فقط من أجل مساعدة الأطفال لكيلا يغرق هذا الجيل بالأمية”.
صرخ أحد الأطفال: “معلمتي أي كتاب نفتح كتاب القراءة أم كتاب الرياضيات؟ أنا حليت وظيفة الرياضيات وحفظت درس القراءة”، تبسمت إسراء وقالت: “الآن سوف نحل وظيفة الرياضيات، ثم نقرأ درس القراءة معاً”.
سألتُ أحد التلاميذ عن معلمته واسمه خالد 7سنوات فقال: “أنا بحب الآنسة كتير وبحسا متل ماما، وهي عطوفة علينا كتير وبتحبنا كتير وبتعطينا الهدايا”.
تلميذة أخرى تدعى هبة (ثمان سنوات) شاركتنا الحديث بكل عفوية: “وأنا كمان بحب الآنسة إسراء كتير مو بس أنت بتحبا”، ضحك الجميع لكلامها ولبراءة الطفولة.
دخلت جارة إسراء وتدعى منال ( 28عاماً) وهي والدة لأحد التلاميذ الموجودين وتقول: “المعلمة إسراء معلمة محترمة مع الجميع وولدي مصعب يحبها كثيراً، وأنا أشكرها على تعليمها لولدي فقد أصبح يجيد القراءة والكتابة”.
حدثتنا إسراء عن عملها وعن سعادتها به وخصوصاً عندما تستطيع رسم البسمة على وجوه الأطفال المهجرين، وكانت السعادة بادية على ملامح وجهها.
وبهذا أصبح نجاح إسراء نجاحان نجاح في مجال عملها حيث تمكنت من مساعدة الأطفال من خلال تدريسهم وتقديم دورات تقوية لهم، والنجاح الثاني أصبح بإمكانها المساهمة في مصروف المنزل بالراتب الذي تتقاضاه من عملها.
فقد أثبتت المرأة السورية أنها ليست أقل كفاءة من الرجل، وهي تكافح كما الرجل في ظل الحرب الدائرة، فلا شيء مستحيل مع العزيمة والإصرار والإيمان بقدوم مستقبل مشرق حافل بالنجاح والتقدم.
بقلم: وفاء المحمد