أم وسام تعود لبيع الخضروات والمواد الغذائية داخل منزلها
ما بين صناديق الخضار والفواكه المتنوعة والطازجة ورفوف الحديد المصفوفة بعناية إلى جانب بعضها البعض في محل تجاري صغير، تغطي تلك الرفوف علب السمنة والشاي والسكر والزيت وغيرها من البضائع، تجلس امرأة على كرسي خشبي، يبدو عليها الهدوء والوقار كما يبدو في أخاديد وجهها الشاحب ما حفرته السنون من تعب وشقاء.
آمنة المصطفى وتكنى بأم وسام (45عاماً) نازحة من بلدة حاس بريف إدلب الجنوبي، نزحت في بداية شهر أيار الماضي بسبب القصف الذي شنته قوات الأسد والعدوان الروسي على مدن وقرى ريف ادلب الجنوبي إلى مخيم العبد الله بالقرب من بلدة قاح بريف إدلب الشمالي حيث يقطن حوالي 400 عائلة نازحة من مدينتي كفرنبل حاس.
هُجر مئات الآلاف من المواطنين القاطنين في مدن وقرى ريف ادلب الجنوبي منذ شهر أيار بسبب محاولات تقدم لقوات الأسد على مناطق سيطرة الفصائل الثورية والذي تزامن معها قصف غير مسبوق نفذته الطائرات الروسية على المنطقة.
آمنة أم لثلاثة أولاد ذكور، كانت عائلة أم وسام تعيش حياة مستقرة وسعيدة وأحوالهم المادية جيدة، وبسبب النزوح ساءت أوضاعهم كما جميع العائلات التي هُجرت عن مدنها وقراها، فقررت مساعدة زوجها في تأمين مصروف العائلة بعد نزوحهم عن بلدتهم وتقول:
“بعد معاناة طويلة مع النزوح والتهجير وانتقالنا من مكان إلى آخر في الشمال السوري، قررنا أن نستقر في هذا المنزل الصغير المؤلف من غرفتين، وأحضرنا ما تبقى من أثاث منزلنا، وما وجدناه من أغراض محلاتنا التجارية في البلدة بعد تعرضها لعملية سرقة، وقمنا بتجهيز غرفة في المنزل هنا لجعلها دكاناً، فوضعنا على جدرانها رفوفاً من أجل وضع البضاعة عليها”.
وتضيف أم وسام: “بعد إحضار البضاعة وجدنا أنها قليلة ولا تحتوي على كل ما يحتاجه الزبون، فطلبت إلى زوجي أن يبيع آخر قطعة ذهبية كنت أمتلكها، كنت قد ادخرت ثمنها من عملي في الخرز وبيع الثياب في السابق، من أجل زيادة بضاعة المحل، لم يكن وافياً بالنسبة لنا بيع مواد السمانة فقررت أن أبيع كل ما يحتاجه سكان المخيم من الخضار والفواكه، علّنا نحصل على ربح أفضل”.
بعد أن كانت أم وسام تمتلك في بلدتها محلات تجارية ذات مساحة واسعة وفيها جميع أنواع البضاعة، أجبرتها الظروف على العودة من جديد للبيع داخل المنزل، وتحدثنا عن أوضاع عائلتها قبل النزوح وتقول: “كنا نمتلك محلات تجارية كبيرة في بلدتنا تحتوي على جميع أصناف البضاعة (السِمانة) ولكن اضطررنا للنزوح من بلدتنا تاركين خلفنا كل ما نمتلك وكل ما جنيناه في سنين عمرنا”.
قطع حديثنا دخول طفلة ترتدي وشاحاً أزرق وقالت: “يا خالة بدي نصف كيلو سكر وربع كيلو قهوة وقالت لي أمي سجليها بالدين”، فقالت أم وسام: “تفضلي يا ابنتي”.
دخل شاب ومعه صينية عليها إبريق شاي وكؤوس فارغة وصحون تحتوي على بذور دوار الشمس وضعها وهمّ بالخروج، فقالت له: “اجلس معنا”، فجلس وراح يستمع إلى حديثنا، عرفت أنه ولدها وسام في الصف الثالث الثانوي.
أحب وسام أن يشاركنا الحديث ويعبر عن احترامه لأمه وتضحيتها من أجلهم قائلاً: “أمي امرأة عظيمة وصبورة وتفعل ما بوسعها لتؤمن لنا كل ما نحتاج إليه، أنا أحبها وأقدرها وأحترمها كثيراً، فهي مثال يحتذى به، فهي دائماً تقف بجانب والدي وتشجعه على تخطي الصعوبات”.
تنظر أم وسام إلى ولدها وتستمع إلى كلامه بكل فخر واعتزاز والفرحة على معالم وجهها واضحة وتقول: “أنتم كل حياتي ومصدر سعادتي فأنا أشعر بسعادة كبيرة عندما أراكم سعداء”.
ولأن أم وسام لم ترزق بأنثى فقد كان أولادها الذكور يساعدونها في أعمال المنزل تقديراً منهم لتعبها من أجلهم.
دخل رجل بشعر مخضب بين السواد والبياض عمره حوالي الخمسين عاماً، عرف عن نفسه بأبي وسام داخل بالحديث: “ماذا حكت لكم أم وسام عن وقوفها بجانبي ومساندتها لي، أنا سأحكي لكم، أم وسام أخت رجال، وقفت معي في السراء والضراء وكلما ضاقت علي تساعدني لأخرج من محنتي، وضحّت بذهبها من أجلي، أم وسام نعم الرفقية وقليل أمثالها”.
وعن الصعوبات التي تواجههم يقول أبو وسام: “الارتفاع المستمر بسعر الدولار يسبب لنا الخسارة أحياناً، نشتري البضاعة بسعر لنتفاجأ بعد بيعها أن ثمنها من المصدر أصبح أغلا من الثمن الذي بعنا به”.
دخلت أم محمد (34عاماً) وهي زبونة أم وسام بدأت تتفحص الرفوف وكأنها قد نسيت ماذا تريد أن تبتاع قالت: “أريد كيلو زعتر وكيلو سمنة وكيلو سكر، وبعض أكياس بطاطا (الشيبس) للأولاد وبعض علب البسكويت، وأيضاً أريد ثلاثة كيلو من البرتقال ومثلها تفاح”، بدأت بالحديث ريثما تحضر لها أم وسام طلبها وتقول: “أنا أشتري كل شيء يحتاجه المنزل من عند أم وسام فبيعها رحماني، فهي تبيع كيلو البطاطا ب200ليرة في الوقت الذي يبيعها غيرها ب250، وكيلو البندورة 550 ليرة وغيرها ب600ليرة، شكراً لك يا أم وسام لأنك تشعرين بالناس”.
تجيب أم وسام والبسمة على وجهها: “على الرحب والسعة، إذا لم نشعر ببعضنا ونساعد بعضنا البعض من سيساعدنا، الحمد لله الذي قدّرنا على مساعدة الآخرين”.
مجد (ابنها الصغير 13عاماً) مدلل العائلة عبّر عن حبه لأمه بطريقته الخاصة، يضمها ويقول: “أنا ما بحسن عيش من دونك أبداً، أنت كل حياتي”، عانقت أم وسام ولدها الصغير “وأنا أيضاً لا أستطيع العيش بدونك”، ثم قبلته.
بينما نحن نشرب الشاي دخلت امرأة تبدو في الثلاثين من عمرها، قامت أم وسام إليها مرحبة بها “تفضلي خذي كل ما أنت بحاجة إليه” تقول أم وسام، وتجيب المرأة “شكراً لك يا أم وسام، أنت العون للمحتاجين”، أخذت حاجتها ومضت، انصرفت دون أن تدفع ثمن البضاعة، وبعد سؤال أم وسام أجابت: “هي امرأة فقيرة جداً ولديها أربعة أطفال تقوم بتربيتهم، ولا معين لها سوى الله، وأنا أعطيها كل ما تحتاجه دون ثمن”.
“يجب على المرأة أن تكون سنداً لعائلتها، وليست عبئاً عليهم ويجب أن تتحدى جميع الصعوبات في طريقها”، تختم أم وسام حديثها.
تتمنى أم وسام أن يعود الأمان لبلدها سوريا وخصوصاً لبلدتها حاس، من أجل العودة إلى منزلها الذي اضطرت للنزوح منه رغماً عنها.
إعداد : فريق فرش أونلاين