أم محمود تحول غرفة من منزلها إلى محل تجاري لتعيل أطفالها
في منزلٍ صغيرٍ مؤلف من غرفتين، في إحداها رفوفٌ مصفوفةٌ بعناية على الجدار، وضع عليها بضائع متنوعة ما بين ألبسة نسائية وولادية ومواد تجميلية (مكياج)، إضافة إلى طاولة مركونة في زاوية الغرفة رصف عليها أكياس من الخبز، تجلس بين كل هذه الأشياء امرأة على كرسي خلف طاولة صغيرة يبدو على وجهها ملامح الهدوء والسكينة.
نجوى الأحمد وتكنى بأم محمود (35 عاماً) نازحة من بلدة حاس بريف ادلب الجنوبي، نزحت في منتصف شهر رمضان الماضي، وتقطن حالياً في مخيم العبد الله بالقرب من بلدة قاح، ويحتوي المخيم على حوالي 400عائلة نازحة، هجرت كما هجر مئات الآلاف من المواطنين القاطنين في مدن وقرى ريف ادلب الجنوبي، بسبب محاولات تقدم لقوات الأسد على مناطق سيطرة الفصائل الثورية.
نجوى أم لخمسة أولاد، ثلاثة صبيان وابنتان، كانت أم محمود تعيش حياة مستقرة مع أطفالها، وأحوالهم المادية متوسطة، وبسبب النزوح ساءت أوضاعهم، ولم تجد عملاً سوى بيع الألبسة والمواد التجميلية، كما كانت تعمل في السابق في بلدتها حاس.
تقول: “بعد معاناة طويلة مع النزوح والتهجير وانتقالنا من مكان إلى آخر في الشمال السوري، قررت الاستقرار مع أطفالي في هذا المنزل الصغير، والذي قمت بشرائه من المال الذي ادخرته لوقت الحاجة، في البداية لم أتمكن من إحضار أثاث المنزل، ولا حتى بضاعة المحل التجاري الذي كنت أملكه، ولكن بعد فترة من الزمن تمكنت من إحضارها والحمد لله، وعندها قررت متابعة العمل ببيع الألبسة وغيرها هنا في بلد النزوح، وقمت بتجهيز غرفة في المنزل لجعلها دكاناً، فوضعت على جدرانها رفوفاً لحمل البضاعة عليها”.
بعد أن كانت أم محمود تمتلك في بلدتها محلاً تجارياً، اضطرت لبيع البضاعة في غرفة من المنزل هنا في بلد النزوح، وتذكرت ذلك اليوم الذي فقدت فيه زوجها بقصف لطيران الأسد على مدارس بلدة حاس، وتقول: “كان يوم 26 تشرين الأول عام 2016 هو اليوم الأسوأ في حياتي، حيث فقدت فيه رفيق دربي وسندي في هذه الحياة، صحيح أنه مضى أكثر من ثلاثة أعوام على هذه الحادثة، ولكنني لا أستطيع أن أمحوها من ذاكرتي فهي حاضرة في مخيلتي دوماً وكأنها حصلت اليوم، ففي صباح ذلك اليوم قامت طائرات نظام الأسد الحربية باستهداف حي المدارس ببلدة حاس، وحينها كان أولادي في المدرسة فأسرع زوجي لإنقاذهم وتمكن من إحضارهم إلى المنزل، وعاد على الفور إلى مكان التنفيذ مع أنني رجوته ألّا يذهب، لكنه أصر” وقال لي: “التلاميذ كلهم بمثابة أولادي وعليّ مساعدتهم”، ثم ذهب مسرعاً وعند وصوله إلى المدرسة قامت طائرة حربية أخرى بإطلاق صواريخها على ذات المكان، فاستشهد زوجي وهو يحاول إنقاذ الأطفال”.
أطلق على المجزرة التي ارتكبتها طائرات الأسد الحربية في بلدة حاس بريف إدلب الجنوبي، وذلك في 26 تشرين الأول عام 2016 اسم “مجزرة الأقلام”، والتي تسببت باستشهاد أكثر من 40 مدنياً بينهم 17 طالباً ومعلمتان، وعشرات الجرحى والمصابين.
ثم حدثتنا عن عملها السابق في بلدتها حاس: “بعد استشهاد زوجي تاركاً في عنقي خمسة أطفال، أصبح عليّ أن أكون الأب والأم لأولادي ، وكنت أمتلك مبلغاً من المال، فقررت أن أفتتح بسطة داخل المنزل، وقمت بشراء بعض المأكولات التي يحبها الأطفال وأحضرت بعض الألعاب أيضاً، ومن مردود البسطة تمكنت تأمين حاجيات الأطفال، والحمد لله على كل حال”.
تضيف أم محمود: “وبعد فترة من افتتاح البسطة سمعت من إحدى الصديقات بأن منظمة الإحسان قد أعلنت عن دعمها لبعض المشاريع الصغيرة وكان ذلك في عام 2018، فتقدمت بمشروعي لديها وهو بيع الملابس وكان مشروعي من المشاريع المقبولة لدى المنظمة، فقامت بدعمه واشترت لي البضاعة بمبلغ 850 دولاراً، وقمت بافتتاح محل تجاري لبيع الألبسة وطورت مشروعي مع الزمن، وكان إقبال الناس للشراء من محلي كبيراً والحمد لله، وعشت مع أطفالي دون الحاجة إلى أحد”.
وتفضل أم أحمد (38 عاماً) جارة أم محمود وزبونتها الدائمة، شراء حاجياتها وحاجيات أطفالها من عند أم محمود قائلة: “أنا أشتري من عند أم محمود لأنها امرأة متسامحة بالبيع، بيعها رخيص وأستطيع الشراء من عندها بحرية لكونها امرأة”.
قطع حديثنا دخول فتاة ترتدي وشاحاً مزركشاً، حاملة صينية عليها فناجين قهوة، عبقت الغرفة برائحتها الشهية،عرفت أنها مرح (15 عاماً) ابنة أم محمود الكبرى قدمت لنا القهوة وجلست تصغي إلى حديثنا، ثم أرادت أن تعبر عن امتنانها لوالدتها وتعويضها لهم عن حنان الأب قائلة: “أمي امرأة صبورة وحنونة، ولم تتخلى عنا بعد وفاة والدي بل فعلت كل ما بوسعها من أجل إسعادنا، أنا أحبها وأحترمها كثيراً”.
كانت أم محمود تستمع إلى كلام ابنتها بكل فخر واعتزاز وقالت: “أنتم ما تبقى لي في هذه الدنيا فكيف لا أفعل المستحيل من أجل إسعادكم”.
وتضيف أم محمود: “بعد أن وجدت الإقبال على شراء الألبسة هنا في بلد النزوح قليل، لقلة عدد السكان في المخيم، قررت أن أبيع الخبز أيضاً فأحضرت رخصةً، حيث أربح في كل 50 كيساً من الخبز 1000ليرة سورية، والحمد لله أصبحت حالتنا المادية أفضل”.
وعن الصعوبات التي تواجهها تقول أم محمود: “الارتفاع المستمر بسعر الدولار يسبب لي الخسارة أحياناً، حيث أشتري البضاعة بسعر لأتفاجأ بعد بيعها أن ثمنها من المصدر أصبح أغلى من الثمن الذي بعتها به”.
وبدون استئذان دخل طفل صغير يرتدي كنزة خضراء وبنطالاً أسوداً قال : “يا خالة تقول أمي هل أحضرتي بضاعة جديدة”، تجيب أم محمود: “لا يا بني بعد يومين إن شاء الله سوف أحضر بضاعة جديدة”، يجيب الطفل: ” شكراً يا خالة”.
تنقير على الباب وصوت شاب ينادي: “أمي”، فأجابت أم محمود: “أدخل”، وقالت إنه:”محمود ولدي البكر (17عاماً)”، ألقى التحية وجلس مصغياً إلى حديثنا، ثم داخلنا الحديث قائلاً: “أمي هي عمود المنزل بعد وفاة والدي ونحن لا نستطيع الاستغناء عنها أبداً ولا عن مشورتها في كل كبيرة وصغيرة، ونحن نحترم رأيها ونقدرها كثيراً”.
صوت امرأة تنادي أم محمود، فقامت أم محمود إليها مرحبة “أهلاً ومرحباً ببركة المنزل”، وعندما دخلت تبين أنها والدة زوجها ويبدو أنها في السبعين من عمرها”، فقالت مادحةً أم محمود: “زوجة ولدي امرأة أصيلةٌ وصبورةٌ فقد صبرت على تربية الأولاد وفعلت كل ما بوسعها لتعويضهم عن حنان الأب أنا أقدر لها ذلك كثيراً”.
“يجب على المرأة أن تتحدى جميع الصعوبات في طريقها، وخصوصاً المرأة التي فقدت زوجها وأصبح عليها أن تكون بمثابة الأم والأب لأولادها، فيجب أن تكون قويةً وصبورةً”، اختتمت أم محمود حديثها.
تأمل أم محمود أن تكون عودتها قريبة إلى بلدتها حاس، وأن يعود الأمن والسلام لوطنها سوريا ولجميع البلدان، كي تتمكن من الرجوع لمنزلها ومحلها التجاري اللذين غادرتهما رغماً عنها.
إعداد: وفاء