أم أحمد تعمل بفرز حفاضات الأطفال في خيمة صغيرة
رغم وعورة الأرض وطبيعتها الجبلية، اختارت عائلة أم أحمد قرية البلاط التي تتبع لمدينة دركوش مستقراً لها ولأسرتها لقربها من الحدود التركية، علها تجد الأمان لأطفالها بعيداً عن القصف الذي تتعرض له مناطق ريف ادلب الجنوبي حيث مسقط رأسها، قامت ببناء خيمة على كتف الجبل المحاذي للأراضي التركية، ترتفع أغطية بلاستيكية تمت خياطتها ببعضها فوق أعمدة معدنية رفيعة لتشكل مأوى يقيهم مخاطر جيش الأسد والطيران الروسي في قريتهم الأصلية في الجنوب.
تجلس أم أحمد فاطمة (اسم مستعار) وعمرها 35 عاماً وزوجها وأطفالها ويحيط بهم أكياس من حفاضات الأطفال في تلك الخيمة التي بالكاد تتسع لهم ولحاجياتهم البسيطة، استقبلتنا أم أحمد في خيمتها، والابتسامة تملأ وجهها النحيل الذي يبدو عليه التعب والإرهاق الواضح في تراسيمه وترد التحية “أهلاً وسهلاً شرفتمونا”.
نزحت فاطمة وعائلتها منذ ثلاثة أشهر من بلدة معصران شرق مدينة معرة النعمان إلى قرية البلاط في ريف إدلب الشمالي الغربي والذي تسيطر عليه الفصائل الثورية، بسبب حملة روسيا وحليفها بشار الأسد على محافظة إدلب، والتي أدت إلى تهجير أكثر من نصف مليون إنسان إلى أماكن أخرى، وخاصة إلى ريف إدلب الشمالي.
فاطمة أم لأربعة أطفال ثلاثة ذكور وأنثى واحدة، وتحمل بطفلها الخامس، كانت عائلة أم أحمد تعيش حياة مستقرة وأحوالهم المادية جيدة في بلدتهم، وبسبب النزوح المتكرر ساءت أوضاعهم كثيراً، كباقي العائلات التي هُجرت من مدنها وقراها، فقررت مساعدة زوجها في بلد النزوح وتقول:
” لم يجد زوجي عملاً جديداً لفقر المنطقة وقلة فرص العمل وقسوة الجو هنا في فصل الشتاء، فما كان عليّ سوى التفكير بعمل لا يحتاج لرأس مال ويكون ضمن الخيمة، ومن خلال اتصال هاتفي مع أقارب لنا في مدينة دركوش عرضوا عليّ العمل معهم، فهم يقومون بتوزيع بالات الحفاضات المستوردة من الخارج على بعض العائلات لفرزها، وافقت وبدأت العمل معهم”.
تابعت فاطمة: “وفي اليوم الثاني تم إحضار كيس كبير مضغوط مليء بالحفاضات وبمختلف المقاسات، فقد كنا بحاجة لعدد كبير من الأشخاص لإتمام العمل، فقمت بمشاركة عائلة أختي والتي تقطن بخيمة بجوار خيمتي”.
تشرح أم أحمد كيف يقومون بالعمل قائلة: “تجارة الحفاضات رائجة والكثير يعمل بها، بداية نقوم بإفراغ الكيس خارج الخيمة على قطعة قماش كبيرة ونجلس جميعنا من حولها، ونقوم بفرز الحفاضات كل مقاس على حدىً، فهي تحتوي من مقاس واحد حتى مقاس سبعة ونعبئها ضمن أكياس كبيرة، ونضعها داخل الخيمة خوفاً من المطر، وعقب ذلك كل عائلة تأخذ مقاس وتقوم داخل خيمتها بعزل الحفاضات التي لا تصلح للاستعمال والتي تحتاج إلى لاصق نقوم بوضعه، ونعبئها في أكياس خاصة يحضرها صاحب العمل تتسع لخمسة كيلو غرام ونختمها بلاصق شفاف”.
تصف أم أحمد عملها بالشاق والمتعب قائلة: “عملنا شاق ويحتاج لقوة وجهد لضغط الأكياس، وكما ترين أضع الميزان بجانبي وأقوم بتعبئة الكيس حتى أتأكد من الوزن الصحيح، وأختمه وكل عدة أيام يحضر صاحب العمل ويأخذ ما يجهز من الأكياس”.
دخلت طفلة صغيرة بعيون بنية وترتدي حجاباً أسود اللون، تدعى إسراء ابنة أم أحمد، وتبلغ من العمر عشر سنوات تحمل صينية وفناجين من القهوة الساخنة قدمتها وقالت لأمها: “أنا في الخارج أساعد والدي في العمل”، أجابتها الوالدة: “الله يرضى عليكي”.
في الوقت الذي ترتفع فيه الأسعار بشكل شبه يومي، يعتبر أجر العمل بهذه المهنة قليلاً بالقياس للوضع المعيشي وذلك حسب وصف أم أحمد وتقول:
“بالنسبة للأجر الذي أتقاضاه من هذا العمل ١٠٠ ليرة سورية للكيس الواحد والذي يزن خمسة كيلو غرامات، فنحن نعمل بجهد كبير طوال اليوم منذ الصباح حتى حلول المساء، ولا نقاطع العمل سوى وقت الضرورة أو وقت الطعام حتى نتقاضى ١٠٠٠ حتى ١٥٠٠ ليرة أي ما يعادل دولار ونصف والتي بالكاد تكفي ثمن الخبز، وكان الإتفاق بدايةً كل كيس ١٥٠ ليرة، لكن لعدم امتلاكنا سيارة لإحضار طرد الحفاضات من دركوش تم خصم ٥٠ ليرة مقابل جلبه للخيمة، الحمدلله على كل حال ساترها الله”.
تجلس بجوارنا أخت أم أحمد وتدعى أم محمود (٣٨ عاماً) طويلة القامة ونحيلة تداخل بالحديث: “نعمل بقوت يومنا، ما العمل؟ رجالنا لم يجدوا عملاً وعلينا مساعدتهم، فعائلتي تعمل جميعها نحن ١١ شخصاً نعيش في خيمة، ونحتاج لمصروف كبير ولم نجد سوى العمل بالحفاضات، رغم أنني لا أستطيع إجهاد نفسي بسبب خضوعي لعمل جراحي لكن تعب العمل أهون عليّ من الحاجة للناس”.
أما قريبة أم أحمد سامية (اسم مستعار) تقول: “أولادي صغار ولا أستطيع العمل، لكن قررت العمل على قدر استطاعتي ظناً مني أن أجر الكيلو ١٠٠ ليرة سورية وليس الخمسة كيلو، فأنا طوال اليوم لا أنهي سوى كيسين لأتقاضى ٢٠٠ ليرة، فقررت ترك العمل فالأجر قليل، وخاصة أن كل شيء ازداد ثمنه مع ارتفاع الدولار، سعر الكيلو في السوق الذي أشتريه لطفلي ٢٥٠٠ ليرة أي ما يعادل دولارين وأكثر فمئة ليرة ماذا تفعل في هذا الوقت”.
وشكت أم أحمد من صعوبة العمل قائلة: “ضغط الكيس يحتاج لقوة وزوجي لا يتقن القيام بترتيب الحفاضات بشكل مستقيم، فما كان علي سوى القيام بذلك، وأنا في الشهر الخامس من حملي، وأجد صعوبة كبيرة ظهري يؤلمني ويدي، لكن ماذا أفعل؟ فنحن بحاجة العمل، ورغم التعب أحس بالراحة لإكفاء حاجتنا ولو بجزء بسيط فوجود عائلتي من حولي سالمة هذا يجعلني أحمد الله دائماً رغم خسارتي لمنزلي، وكل ما جنيته أنا وزوجي ضمن السنوات الماضية”.
يدخل أبو أحمد الخيمة حاملاً مجموعة من الأكياس ويلقي التحية ويقول لزوجته: “أين أضع لك هذه الأكياس الخام والتي جلبها السائق من دركوش للتو، ويقول لنا صاحب العمل أنه مستعجل على فرزها، وسأحاول جهدي المساعدة وتعلم الترتيب وأنا أشكرك يا أم أحمد على تعبك معي الذي لن أنساه يوماً”.
جلّ ما تتمنى أم أحمد أن تعود لبلدتها، وأن يحل السلام، وتأمل بقدوم ذلك اليوم بفارغ الصبر علها تستطيع أن تجعل أولادها يكملون تعليمهم، ولدها البكر أحمد ١٤ عاماً من الأوائل في صفه على حد قولها توقف عن الدراسة، لعدم وجود مدرسة قريبة وهذا يحزنها كثيراً، هكذا اختتمت فاطمة الزيارة.