ماجدة تٌدرّس الأطفال في منزلها لمساعدة عائلتها الفقيرة
في منزل ريفي جميل مؤلف من غرفتين ومطبخ صغير وشرفة واسعة، تحيط به الأشجار الخضراء والورود الملونة، تجلس شابة في إحدى هذه الغرف ويتجمع حولها مجموعة من الأطفال بشكل دائري، وكل طفل يحمل بين يديه كتاباً ودفتراً وقلماً، ويرددون النشيد الجميل، تبدو على ملامح وجه تلك الشابة علامات الصبر والإرادة والتحدي، وتدعى ماجدة.
“لا يأس مع الحياة”، هكذا بدأت ماجدة (23 عاماً) حديثها معنا، ماجدة امرأة نازحة من مدينة كفرنبل بريف ادلب الجنوبي، وهي امرأة مطلقة، نزحت منذ منتصف شهر أيار لعام 2019، بسبب القصف المستمر والوحشي لقوات الأسد على المدينة، والذي استهدف منازل المدنيين وهدمها على قاطنيها، وهي تقطن الآن في بلدة كلّي بريف ادلب الشمالي، مع والدتها وأخيها وعائلته.
تقع بلدة كلي بالقرب من مدينة سرمدا (عصب التجارة في الشمال السوري) وتخضع لسيطرة الفصائل الثورية ونزح إليها عددا لا بأس به من سكان جنوبي ادلب.
ماجدة شابة في مقتبل العمر كانت تدرس في معهد البارة (قسم اللغة العربية)، اجتازت السنة الأولى بنجاح ولكن اضطرت لترك دراستها بسبب حملة نظام الأسد وروسيا على ريف ادلب الجنوبي، وتقول: “غادرنا مدينتنا تاركين فيها ذكرياتنا، وأملاكنا ومصادر معيشتنا، حيث كنا نعيش حياة كريمة ومنعمة، وتنقلنا من مكان إلى آخر في مناطق الشمال السوري، بدايةً سكنّا في مدينة الدانا بريف إدلب الشمالي، وفي ذلك الوقت كنت مخطوبة لشاب من مدينتي، وبعد أن مكثنا لفترة من الزمن، في مدينة الدانا بريف إدلب الشمالي، تزوجنا وذهبت لأقطن معه في مدينة حارم، ولكنه بعد مدة بسيطة من زواجنا قرر السفر إلى تركيا للعمل هناك، وطلب إليّ البقاء هنا في سوريا ولم يوافق على اصطحابي معه، ولمّا ألححت عليه ليأخذني معه، وبعد شد وجذب بيني وبينه، طلقني وأنا مازلت عروساً”.
تساقطت الدموع من عيني ماجدة رغماً عنها، فمسحتها بمنديل كان بحوزتها، وأطرقت برأسها أرضاً، ثم أكملت حديثها: “هنا عدت أدراجي إلى منزل والدتي حيث تقطن مع أخي وعائلته بمنزل بالأجرة بمدينة الدانا، مصابي كان كبيراً، لم أكن أستطيع أن أصدق بأن هناك أناس بكل هذه القسوة، وموت الضمير، صدمتي كانت كبيرة واسودت الدنيا في عيني، ولكن ماذا بعد..؟، كان عليّ ألا أستسلم لهذا الواقع، وخصوصاً أننا في بلد النزوح وفي ظل مجتمع لا يرحم المرأة”.
تابعت ماجدة كلامها: “بعد أن مكثنا لبضعة أشهر في مدينة الدانا قررنا البحث عن مكان آخر تكون أجرة المنزل فيه أقل من هنا، فوجدنا منزلاً في بلدة كلّي بسعر 43 دولاراً، عندما جاء أخي إلى هنا لم يجد عملاً سوى بيع بعض المأكولات للأطفال على بسطة متنقلة، وكان ما يجنيه من نقود لا يكفي لحاجيات العائلة”.
عزمت ماجدة ألّا تقف موقف المتفرج وهي ترى أخاها مهموماً طوال الوقت لأنه لم يستطع تحمل أعباء المنزل منفرداً، فاغتنمت دراستها السابقة (سنة باللغة العربية) وقامت بجمع أطفال الجيران لتقوم بتعليمهم وتقول:”قررت ألّا أقف مكتوفة الأيدي وأنا أرى أخي مهموماً طوال الوقت، وإضافة إلى ذلك تمكنت من تحقيق حلمي في أن أصبح معلمة، فأصبحت أعلم أولاد الجيران مقابل أجر مالي بسيط أساعد فيه أخي في مصروف المنزل، والحمد لله تمكنت من مساعدته”.
صوت طرق على الباب وقفت ماجدة لفتح الباب ويبدو أنه موعد حضور مجموعة أخرى من الأطفال إلى الدرس، فاستقبلتهم بابتسامة وترحيب حار، وقالت: “أهلاً بتلاميذي الأعزاء”.
دخل الأطفال متلهفين للدرس وكلهم نشاط وحيوية، مستعدين لتلقي العلم، والتفوا حول معلمتهم في حلقة دائرية وهم ينشدون ويغنون بسعادة كبيرة، وبكل عفوية بادر طفل منهم بالحديث كان يرتدي بنطالاً أزرق وقميصاً أبيض ويدعى حسام: “أنا أحبك يا معلمتي فلولاك لما استطعت الدراسة، شكراً لك”.
ابتسمت ماجدة لكلام الطفل، وقالت: “وأنا أحبكم كثيراً، فأنتم تملؤون منزلي فرحة، وأنسى همومي برؤيتكم”.
هنا داخلتنا الحديث والدة أحد الأطفال ويدعى أحمد، وقد حضرت معه هذه المرة من أجل شكر ماجدة على حسن معاملتها لولدها، قائلة: “المعلمة ماجدة صاحبة قلب كبير، فهي إضافة لتعليمها للأطفال تحبهم كثيراً وتقدم لهم الهدايا الجميلة، والأطفال يحبونها وينتظرون الدرس بفارغ الصبر، وقد لاحظت تحسناً كبيراً بالنسبة لولدي أحمد فقد أصبح يهتم بالقراءة كثيراً، شكراً جزيلاً لك يا ماجدة”.