عايدة: شهادتي الجامعية هي سلاحي في وجه الظروف الصعبة
منزل مؤلف من غرفتين صغيرتين، في إحدى هذه الغرف وعلى أحد الجدران مكتبة صغيرة مليئة بالكتب، وإلى جانبها طاولة صغيرة رصفت عليها بعض الدفاتر والأقلام وأوراق للمذاكرة، وحقيبة نسائية، وداخل هذه الغرفة تجلس ثلاث نساء يحتسين القهوة ويتحدثن عن فرص العمل للمرأة بعد النزوح إلى ريف إدلب الشمالي، بعد إلقاء التحية عليهن جلست بجانب أم علي صاحبة المنزل، وأكملن حديثهن، فقالت أم علي: “لقد تأخرت كثيراً في خروجي من البلدة، لأن زوجي كان يرفض الخروج إلّا بتقدم قوات الأسد إلى بلدتنا، وهذا الأمر الذي صعّب عليّ الحصول على وظيفة”.
عايدة المحمد (27عاماً) وتكنى بأم علي، وهي نازحة من بلدة حاس بريف إدلب الجنوبي، خرجت من بلدتها في شهر كانون الثاني لهذا العام، بسبب وصول الجيش إلى مناطق قريبة من بلدتهم، وأيضاً بسبب القصف الكثيف الذي نفذته قوات الأسد والعدوان الروسي على مدن وقرى ريف إدلب الجنوبي، وهي تقطن الآن مع عائلتها في بلدة كبته بريف إدلب الشمالي، والتي تخضع لسيطرة الفصائل الثورية، ويبلغ عدد سكان كبته ما يقارب 7000 آلاف نسمة فهي قرية صغيرة تقع بجانب مدينة ملس.
عايدة أم لثلاثة أطفال (علي 5 سنوات) و(خالد 3 سنوات) و(وردة سنتان)، كانت عائلة أم علي تعيش حياة مستقرة وأحوالهم المادية جيدة، ولكن بعد نزوحهم تغيرت أحوالهم، تقول أم علي: “في بداية نزوحنا جلسنا في منزل مع أحد أقرباء زوجي في قرية كبته، وكان المنزل مؤلف من أربع غرف، وتقطنه أربع عائلات، وبعد مكوثنا لفترة وجيزة فيه بدأ زوجي في البحث عن منزل لنا للتخفيف عليهم، وبعد شهر استطعنا الحصول على منزل في ذات البلدة، ولكن لا تتوفر به أدنى مقومات الحياة، وللأسف كنا مضطرين للسكن فيه لقلة المنازل المتواجدة في البلدة لأنها صغيرة، وأيضاً لأننا خرجنا من بلدتنا بوقت متأخر”.
بعد أن كانت أم علي تمتلك منزلاً جميلاً في بلدتها حاس، أصبحت الآن تقطن في هذا المنزل الصغير، وكان زوجها يعمل سابقاً في معمل للبلوك (اللَبِن)، الذي يمتلكه أخوه، لكنه أصبح الآن بدون عمل، إلّا العمل مع الورشات الزراعية وهو عمل غير دائم، فلذلك هو دائم البحث عن أي عمل من أجل تأمين لقمة العيش لعائلته.
حدثتنا أم علي عن عمل زوجها عندما كان في بلدته، وعمله في بلد النزوح، تقول: “كان زوجي يعمل سابقاً في معمل لصنع البلوك (اللبِن) يمتلكه أخوه، وفي الصيف يقوم بضمان أرض زراعية فيها بئر ماء، حيث يقوم بنثر بذور الخيار وغيرها من بذور الخضراوات التي تنمو في فصل الصيف في هذه الأرض، وكانت أحوالنا المادية جيدة والحمد لله، فكان عمله في البلوك صيفاً شتاء لا يتوقف إلّا في حال المطر في الشتاء، ولكن بعد نزوحنا بدأ يبحث عن عمل في القرية حتى وجد عملاً مع ورشات في الأراضي الزراعية”.
وتضيف أم علي: “عندما وجدت أن مدخول زوجي من العمل في الورشات لا يكفي لتأمين حاجيات المنزل الكثيرة، وبحكم أنني أمتلك شهادة جامعية اختصاص (تربية معلم صف)، اقترحت على زوجي أن يسمح لي أن أعمل معلمة كما كنت أعمل في بلدتي، وبالفعل وافق على اقتراحي، ولكن..”.
هنا برقت عيني عايدة بالتحدي والإصرار، وأكملت حديثها: “عندما نزحت كانت المدارس في نهاية الفصل الأول، تقدمت بطلب وظيفة في مدينة حارم، ولكن لم أستطع الحصول على الوظيفة، ورغم ذلك لم استسلم، فتقدمت بطلب وظيفة آخر بالمجمع التربوي بمدينة حارم، ورحت أنتظر إلى أن جاءني اتصال من المجمع، يخبرني بوجود شاغر في مدرسة كبته وأستطيع التدريس فيها خلال الفصل الثاني، فرحت جداً فقد أصبح بإمكاني مساعدة زوجي في مصروف المنزل”.
وعادت أم علي بذاكرتها للماضي، وكيف تمكنت بإصرارها وتصميمها من الحصول على الشهادة ومن ثم على الوظيفة، تقول: “لقد درست في جامعة إدلب فرع التربية معلم صف، واستطعت الحصول على الشهادة بمساعدة زوجي ووالدتي، فقد كنت أترك ولدي علي مع زوجي عندما أذهب للامتحان، أما ولدي خالد فقد كان صغيراً وبحاجة للرعاية أكثر فكنت أتركه عند والدتي، فهما لهما الفضل بحصولي على الشهادة، فقد كانا سنداً لي بشكل دائم”.
تابعت عايدة حديثها: “وبعد حصولي على الشهادة، علمت من أحد الأقرباء، بوجود مسابقة من أجل التوظيف بإحدى المدارس في بلدتي، وبالفعل تقدمت للمسابقة ونجحت بالاختبار، وبدأت العمل وأنا في غاية السعادة لأنني وجدت نتيجة تعب كل تلك السنوات، ولكن فرحتي لم تكتمل فكانت مدة تدريسي سنة واحدة، ثم بدأت قوات الأسد حملتها الشرسة على ريف إدلب الجنوبي، فأغلقت جميع المدارس ولم أستطع الإكمال”.
وشاركتنا الحديث أم عبدلله والدة عايدة، قائلة: “لا يوجد نجاح دون تعب ومشقة، فكل تعب مكلل بالنجاح، فالشهادة التي حصلت عليها ابنتي، وجدتها هنا في بلد النزوح لتقف بجانب زوجها وتساعده في مصروف المنزل، فهي شابة مفعمة بالحيوية والنشاط أدعو لها دائماً أن تحصل على ما تريد”.
كانت عايدة تستمع لكلام والدتها، بكل فخر واعتزاز، وردت قائلة: “صحيح أنني تمكنت من الحصول على الشهادة، لكن هذا كله بفضل وقوفك بجانبي وتشجيعك لي، أدامك الله لي، وأدام عليك الصحة والعافية”.
كانت تجالسنا صبحية (28 عاماً) إحدى صديقات عايدة، وشاركتنا الحديث، قائلة: “في هذا الوقت أصبحنا بحاجة كبيرة إلى العمل بسبب هذه الظروف القاسية التي نمرّ بها في نزوحنا، لكنني لم أستطع الحصول على شهادة لأتمكن من الحصول على وظيفة، فقد أوقفت جامعتي بسبب الأوضاع الصعبة، ولكن عايدة لم تتوقف عن الجامعة حتى حصلت على الشهادة الجامعية، فهي مثابرة وصبورة، وقد وجدت ثمرة تعبها”.
“في هذا الوقت الذي نمرّ به، الشهادة سلاح فعّال أمام هذه الظروف الصعبة من نزوح، وأوضاع معيشة قاسية في ظل هذا الغلاء الذي نعيشه، شهادتي هي سلاحي، ويجب على كل فتاة وامرأة أن تفعل المستحيل في سبيل إتمام تعليمها”، ختمت عايدة حديثها معنا.
تتمنى عايدة الفرج القريب من الله، كما تتمنى أن يعود الأمن والأمان لبلدها سوريا بشكل عام، ولبلدتها حاس بشكل خاص لتتمكن من العودة إليها وإلى منزلها ومدرستها التي غادرتهما رغماً عنها.
إعداد: محمد مسلم العبيدو