منار.. امرأة نجحت بتحقيق حلم الطفولة رغم الصعوبات
منزل مؤلف من ثلاث غرف يتواجد في إحداها مجموعة متنوعة من الكتب المصفوفة بأناقة وجمال فوق رفوف خزانة خشبية مركونة إلى أحد الجدران وفي وسط الغرفة تجلس امرأة ثلاثينية أمامها العديد من الكتب وبيدها قلم حبر، منهمكة بتقليب صفحات الكتب بشغف وتدون ما يهمها على دفتر كبير بغلاف أسود، وبجوارها طفل صغير، ورغم ابتسامتها الرائعة ونظرتها المليئة بالتحدي والقوة، فقد ظهر على ملامح وجهها ما تركته السنون من تعب وقهر في حياتها.
منار (اسم مستعار) عمرها 32 عاماً امرأة من مدينة الدانا بريف ادلب الشمالي، وهي امرأة مطلقة وأم لطفل واحد.
تقع مدينة الدانا تحت سيطرة الفصائل الثورية، وقد استقطبت الكثير من النازحين، حيث ازداد عدد سكانها بمقدار الضِعف ليصل إلى أكثر من 70 ألفاً، وخصوصاً في ظل الحملة الأخيرة التي شنتها قوات الأسد والعدوان الروسي على مدن وقرى ريف ادلب الجنوبي، حيث اضطر الناس للنزوح إليها.
تقول منار: “منذ صغري وأنا أحب الكتب ولدي فضول لاكتشاف ما يحتويه كل كتاب أصدفه في طريقي، كبرت وكبرت معي هذه المحبة، كما أعشق مهنة التدريس كثيراً وكنت أتمنى أن أصبح معلمة ولكن”.
أطرقت منار برأسها أرضاً وبدت حزينة، حيث تذكرت الماضي: “إلّا أن تقاليد المجتمع حرمتني من تحقيق حلمي، فعندما تقدم أحد الشبان لخطبتي وأنا مازلت في الثانوية وأحب الدراسة كثيراً، وافق والدي على الفور”، وقال: “الفتاة آخرتها لبيت زوجها”، مع أني رجوته وأكدت له: “لا أرغب بالزواج في الوقت الحالي، وأريد أن أكمل دراستي وأصبح معلمة ولكنه لم يرضَ وتزوجتُ وأصبح لدي طفل ولكن فترة زواجي لم تطل فلم أكن سعيدة مع زوجي لأنه كان صعب المزاج، ويعاملني بقسوة”.
صمتت منار وكفّت عن الكلام عندما تذكرت ذلك اليوم “الأسود” في حياتها ثم تابعت: “كانت صدمتي كبيرة عندما أصبحت مطلقة وخصوصاً أنني في مجتمع شرقي يُحمل المرأة وزر طلاقها، ولكن على الرغم من قساوته عليّ إلّا أنه كان محفزاً لي على عدم الاستسلام، وقررت أن أثبت نفسي بدراستي ونجاحي فيها، وتحقيق حلمي بممارسة المهنة التي كنت أحلم بها منذ الصغر”.
لم تتوقف منار عن الدراسة، ولم تتخلى عن تحقيق حلمها بأن تصبح معلمة رغم كل ما مرت به من ظروف قاسية، وعندما سنحت لها الفرصة عادت للدراسة من جديد محققة حلم الطفولة، لكي تصبح معلمة وذلك بتشجيع من والديها، متحدية جميع الصعوبات في طريقها.
خيّم السكون على الغرفة بعد كلامها وقطع ذلك السكون والدة منار بابتسامة ملؤها الحنان، حاملة بين يديها صينية تحتوي على قطع الكاتو الشهية وبجانبها كؤوس تحتوي على عصير البرتقال، قدمتها لنا مرحبة بنا وجلست تنصت إلى حديثنا، ثم تابعت منار سرد قصتها بحماس:
“كنت في النهار أعتني بطفلي الصغير لأنه بحاجة للرعاية والحنان، وفي الليل أدرس من أجل الامتحان، ورفيقي كتابي وفنجان قهوتي، وبالفعل حققت طموحي ونجحت بالشهادة الثانوية وبمجموع يؤهلني لدخول فرع الجامعة الذي لطالما أحببته وحلمت به، وهو فرع التربية (معلم صف) درست بجد ونشاط والحمد لله تخرجت، وأنا الآن أعمل بالمهنة التي لطالما عشقتها منذ الصغر”.
كانت والدتها (55 عاماً) تحدق بنا وتستمع لما نقوله مبتسمة ثم داخلت في الحديث: “ابنتي منار رائعة جداً وأنا أحبها كثيراً وأحب فيها تحديها للظروف وعدم استسلامها أمام الصعوبات”.
فرحت منار لكلام أمها كثيراً وقالت: “شكراً يا أمي، فلولا تشجيعكم لي أنت ووالدي لما تمكنت من الوصول إلى هدفي”.
ثم شرحت منار عن عملها بكل فخر واعتزاز: “أقوم بتحضير الدروس من أجل تدريسها لتلاميذي من الصف الثاني الابتدائي، وأهتم بتدريسهم فإذا تعلم الطفل القراءة والكتابة في الصف الأول والثاني يصبح بإمكانه إكمال دراسته بسهولة أكثر، فالتلاميذ أمانة في أعناقنا، وهم بحاجة للتحفيز والتشجيع وأنا أحرص على ذلك كثيراً وأقدم لهم الهدايا من أجل تشجيعهم على الدراسة بجد، وعلينا أن نعمل على تدريسهم جيداً كي لا يغرق هذا الجيل بالجهل والأمية”.
لقد كانت منار سعيدة جداً بعملها وخصوصاً عندما تستطيع رسم البسمة على وجوه الأطفال، وخاصة المهجرين الذين حرموا من بلادهم ومدارسهم، وكانت السعادة بادية على ملامح وجهها.
صوت سعال رجل في الخارج “منار يا ابنتي”، تفضل يا أبي وعدلت جلستها، دخل رجل بشعر مشتعل الشيب ويضع نظارة على عينيه يبدو أنه في الستين من عمره، بعد أن ألقى التحية وجلس برهةً داخلنا الحديث:
“بالتأكيد أخبرتكم منار كيف تمكنت من تخطي محنتها ونظرة المجتمع لها وتمكنت من تحقيق حلمها، ابنتي ذات إرادة قوية وصلبة فقد تمكنت من تحقيق حلمها رغم كل الظروف والمعوقات التي مرت بها، وأنا أفتخر بها كثيراً”.
كان بريق الفرح يشع من عينيّ منار وهي تستمع لوالدها وهو يتحدث عنها، وأجابته قائلة: “الفضل في تحقيق هدفي يرجع لك ولأمي فأنتما من شجعني على الوصول إلى هدفي ووقفتما بجانبي شكراً لكما”.
صوت طرقات على الباب وامرأة تنادي على منار، قامت منار إليها مرحبة: “أهلاً ومرحباً بجارتي أم خالد، وأهلاً بكل المهجرين إلى مدينتنا”، دخلت امرأة يبدو أنها في الثلاثين من عمرها، ألقت التحية وجلست، علمت أنها جارتها وهي نازحة من مدينة خان شيخون بريف ادلب الجنوبي ومعها طفلها خالد تلميذ منار في المدرسة، داخلتنا الحديث قائلة: “ولدي خالد كان يخاف كثيراً من أي صوت مرتفع وقد أصبح انطوائياً ويفضل الجلوس وحيداً بسبب الخوف الذي رآه في مدينتنا خان شيخون، ولكن وبعد أن أصبحت منار معلمته، وبتشجيع منها أصبح كباقي الأطفال، شكراً لك أيتها المعلمة الحنونة”.
أجابت منار وقد بدت معالم الفرحة بادية على وجهها لكلام جارتها: “هذا واجبي، وأتمنى مساعدة جميع الطلاب فجميعهم بمثابة ولدي”.
وبكل عفوية شاركنا الحديث خالد (7 سنوات): “أنا ما عاد خاف من الطيارة ومن الصوت العالي، لأن معلمتي منار، قالتلي أنو نحنا لازم نكون أقوياء ومانخاف من الصوت العالي، وقالتلي في كتير أولاد كانوا بيسمعوا صوت الطيارة ومابخافوا منها وأنا وأنت لازم تكون متلن، شكراً إلك يا معلمتي الغالية”.
منار سعيدة بعملها لأنها باتت تشعر أنها أصبحت فرداً فاعلاً بالمجتمع، حيث تمكنت من خلاله مساعدة الأطفال وتدريسهم وبث الأمل في نفوسهم وخصوصاً المهجرين منهم، ولم تعد بحاجة أحد لأنها تتقاضى راتباً تتمكن من خلاله تأمين حاجياتها وحاجيات طفلها.
“للحياة مجالات عديدة، وعدم تحقيق الإنسان النجاح في مجال من المجالات لا يعني أنه بالضرورة إنسانٌ فاشل، فهو بعزيمته وإصراره قادر أن ينجح ويبدع في مجال آخر”، هكذا ختمت منار حديثها.
تتمنى منار أن يعود الأمان لوطنها وأن يعم السلام في كل مكان لينعم كل إنسان بعيد عن وطنه برؤيته من جديد والعيش فيه بأمان.
إعداد: فريق فرش أونلاين